وصف المدون

اليوم


تتنوع الكائنات الحية بتنوع صفاتها ومميزاتها، ومن هذه الصفات المميزة، القدرة على التجدد؛ تجدد الأعضاء المفقودة أو الأطراف المبتورة ولكل نوع من هذه الكائنات حد معين للتجدد لا يستطيع تجاوزه؛ فمثلًا نجم البحر يجدد أطرافه المبتورة بشرط أن يبقى القرص العصبي المركزي سليما، ويستطيع كل طرف مبتور أن يكون كائنًا كاملًا أيضًا، والحال نفسه عند دودة البلاناريا (Planarian) وحيوان الهيدرا (Hydra)، ويستطيع أيضًا أبا ذنيبة (صغير الضفدع) تجديد أطرافه ولكنه يفقد هذه القدرة عند بلوغه وتحوله لضفدع بالغ.

أما الإنسان فله قدرة محدودة جدًا على التجدد تتمثل في تجدد خلايا الجلد والكبد بشرط أن يبقى جزء من الكبد وأن لا يُخسر بالكامل، إضافةً للأغشية المخاطية والأغشية الداخلية للجهاز الهضمي، وجزء صغير من الطرف العلوي من الأصبع بشرط أن يبقى الظفر في مكانه، وهذا ينطبق على بعض الثدييات الأخرى كالفئران أيضًا.

أما حيوان الأكسولوتول (Axolotl) واسمه العلمي (Ambystoma mexicanum) فقد أظهر قدرة خارقة على التجدد فبجانب قدرته على تجديد أطرافه المبتورة كاليدين والقدمين يمكنه أيضًا تجديد الحبل الشوكي والقلب وجزء من الدماغ، لذا تتم دراسته حاليًا في سبيل اكتشاف سر تمكنه من تجدد أطرافه بهدف تطبيق هذه التقنية على البشر وعلاج الأطراف المبتورة والأعضاء المستأصلة أو المفقودة بالتجدد بدل استخدام الأطراف الصناعية أو زراعة الأطراف من متبرعين. [1]
صورة حيوان الأكسولوتول (Axolotl)



توضح الصورة قدرة كائنات حية مختلفة على التجدد والأعضاء التي تستطيع تجديدها.
لماذا نحن بحاجة ماسة لإيجاد طريقة لتجديد الأعضاء؟

حسب إحصائيات عام 2017 فإن عدد الأشخاص في العالم الذين يعيشون مع أطراف مبتورة جراء الإصابات يبلغ 57.7 مليون شخص، حيث تشكل نسبة إصابات البتر الناتجة من السقوط من أماكن مرتفعة (36.2%) بينما تشكل نسبة الإصابات الناتجة من حوادث الطرق (15.7%) وتشكل الإصابات الناتجة عن حوادث السير ما نسبته (11.2%) وأما حوادث العمل فتشكل (10.4%) من إصابات البتر، وتتركز إصابات البتر الناتجة عن الحوادث في منطقة الشرق الأقصى وجنوب قارة آسيا، ثم يتبعها غرب أوروبا وشمال إفريقيا ثم الشرق الأوسط، ويحتاج العالم الى 75,850 متخصص في مجال صناعة الأطراف الصناعية لسد احيتاجات العالم من مرضى البتر، مما أدى للاحتياج الشديد لطريقة تمكن البشر من تجديد أطرافهم المفقودة، ولتخطي مشاكل صناعة الأطراف الصناعية وتركيبها ومشاكل البحث عن أطراف من متبرعين مناسبين ومتوافقين مع المرضى. [2]

وفي دراسة قامت بها منظمة الصحة العالمية (WHO) عام 2008 في 104 دولة يشكل مجموع عدد سكان هذه الدول 90% من العالم، أظهرت أن 100,800 عملية زراعة أعضاء تحدث سنويًا، حيث 96,400 عملية منها زراعة كلية (46% من المتبرعين يكونون على قيد الحياة)، و20,200 عملية زراعة كبد (14.6% من المتبرعين يكونون على قيد الحياة)، إضافةً إلى 5,400 عملية زراعة قلب و3,400 عملية زراعة رئتين، 2,400 عملية زراعة بنكرياس، وتم تسجيل 22,400 وفاة لمتبرعين، وهذه الأرقام المخيفة إن كانت تدل على شيء، فهي على الحاجة الملحة لبديل عن التبرع بالأعضاء لسد احتياجات هؤلاء المرضى. [3]
هنا وصلنا للسؤال الأهم في موضوعنا: ما سر إمكانية التجدد الخارقة التي يمتلكها حيوان الأكسولوتول؟
تبدأ عملية التجدد بعد البتر الكامل لإحدى أطراف حيوان الأكسولوتول في الحالة الطبيعية، أو في مختبرات التجارب، مثل مختبر علم الأحياء الجزيئية في فيينا في النمسا وتتم التجربة حسب الشروط العالمية لحماية حقوق حيوانات المختبرات (Animal Testing Regulations), حيث يتم تخدير الحيوان قبل البدء ببتر طرفه.
بعد بتر طرف الحيوان، تتجمع الصفائح الدموية بسرعة عند منطقة البتر لوقف النزيف، ثم ينمو الجلد المتواجد بقرب منطقة البتر ويغطي المنطقة المبتورة ليغلق الجرح، يسمى الجلد الذي يغطي المنطقة المبتورة (Wound Epidermis).
وبعد عدة أيام تتكون بيئة جديدة من الخلايا الغير متمايزة (Undifferentiated Cells) تحت جلد المنطقة المبتورة وتكون على شكل مخروط صغير ويسمى بلاستيما (Blastema) ويعتبر أهم جزء في عملية تجدد الأطراف، حيث تبدأ خلايا تسمى بالخلايا الليفية (Fibroblast cells) بالمجيء إلى منطقة البلاستيما، وتأتي أيضًا خلايا العضلات والعظام والأعصاب والغضاريف من الجزء المبتقي من الطرف بعد قطعه، بعد وصول خلايا العضلات والعظام والأعصاب والغضروف لهذه المنطقة تتحول لخلايا غير متمايزة (أي أنها تخسر مميزاتها الخاصة كونها خلية أعصاب أو خلية عضلات. وتعود للشكل الأولي للخلية التي تستطيع أن تتحول الى أي شكل آخر من الخلايا وتشبه في تركيبها الخلايا الجذعية (Stem Cells) وتسمى هذه الحالة عملية فقدان التماييز للخلايا (Dedifferentiated Cells)، وكلها تتجمع في البلاستيما تحضيرًا لعملية تجدد الجزء المقطوع من الطرف.
مع أن الخلايا المتواجدة في البلاستيما فقدت تمايزها وتشبه في شكلها الخلايا الجذعية (التي تستطيع التحول لأي نوع من الخلايا) إلا أن الأمر ليس هكذا تمامًا، فمع فقدانها لتمايزها إلا أنها ما زالت مقيدة في أنواع الخلايا التي تستطيع التحول له، فمثلا الخلايا العصبية التي فقدت تمايزها المتواجدة في البلاستيما تستطيع التحول فقط لخلايا عصبية، والأمر نفسه بالنسبة للخلايا العضلية وخلايا الدم وخلايا شوان (الخلايا التي تغلف محور الخلايا العصبية) وخلايا الجلد، بينما الخلايا الليفية (Fibroblast Cells) تتحول لخلايا عظم وغضاريف وأيضا لخلايا ليفية بينما خلايا الغشاء الخارجي العظمية (Periskeletal Cells) تتحول لخلايا عظام وغضاريف، والجدول الآتي توضيح وملخص لما ذكر في هذه النقطة.
توضح الصورة الخلايا التي تنتج من انقسام خلايا أخرى انتقلت لمنطقة البلاستيما استعدادًا لتجديد الطرف، حيث خلايا الجلد تستطيع إنتاج خلايا جلد أخرى فقط، بينما الخلايا الليفية تستطيع إنتاج خلايا ليفية وعظام وغضاريف وهكذا..
و تستمر خلايا البلاستيما بالنمو والتماييز حتى يتكون طرف كامل مطابق تمامًا للطرف المفقود. [1]







صور توضح عملية نمو الذراع بعد بترها في مراحلها المختلفة، ابتداءً من تكون البلاستيما حتى نمو الذراع بأكملها.


ما دور الأعصاب والجهاز المناعي في عملية التجدد؟

وجد أن الخلايا العصبية هي التي تتحكم في وعي الذراع، وتخبر الخلايا الأخرى عن الحاجة للبدء في عملية التجدد في حال بتر الذراع، حيث يتحكم الجهاز العصبي في نوعية التجدد الذي على الجزء المصاب أن يقوم به، أي في حال الجرح البسيط يجب أن يتم إغلاق الجرح فقط، بينما أن يتم إنتاج طرف جديد تمامًا في حالة البتر، ففي تجربة قام بها مختبر علم الأحياء الجزيئية في فيينا في النمسا، تم استئصال الخلايا العصبية في يد حيوان الأكسولوتول ثم قاموا ببتر الذراع، فلم يحصل إعادة تجدد للذراع بسبب فقدانها للخلايا العصبية التي تعمل كالشرارة و المنظم التي تبدأ عملية التجدد. [4]



تجربة توضح إزالة أعصاب إحدى أذرع الإكسولوتول بينما إبقاء أعصاب الذراع الأخرى، ثم بتر الذراعين، فكانت النتيجة أن الذراع الفاقدة لأعصابها لم تتمكن من إعادة التجدد بينما الذراع التي لم تفقد العصب تجددت، (يمثل اللون الأخضر الأعصاب)

وجد أيضا أن الخلايا البلعمية (Macrophages) تلعب دورا مهما في عملية التجدد، حيث تم في إحدى التجارب حقن ذراع حيوان الأكسولوتول قبل بترها بمادة توقف عمل الخلايا البلعمية، ثم تم بتر الطرف، فوجد أن طرفًا جديدًا لم ينمو وإنما نمت ندبة مكان البتر، مما أكد أن وجود الخلايا البلعمية مهم جدًا لعملية تجدد الطرف. [1]


ما هي أهم الجينات والبروتينات الداخلة في عملية التجدد؟
(MARCKs-like Protein): وجد أن هذا البروتين يحفز بدء الدورة الخلوية و بدء انقسام الخلية، حيث تم حقنه في ذيل حيوان الأكسولوتول ووجد أنه يحفز إنتاج الحمض النووي الرايبوزي منقوص الأكسجين (DNA) وهذا يدل على تحفيزه انقسام الخلية و دخول الخلية في دورتها لتتكاثر. [4]


(PDGF) عوامل النمو المشتقة من الصفيحات الدموية: وجد أيضا أن عوامل النمو المشتقة من الصفيحات الدموية PDGF (Platelet Derived Growth Factor) التي تفرز في منطقة البلاستيما تعمل كمغناطيس تجذب إليها كل الخلايا التي تحتاجها البلاستيما لنمو طرف جديد كالخلايا الليفية والعصبية والعضلات والعظام وهذا يقربنا خطوة كبيرة اتجاه اكتشاف السر الكامل وراء التجدد الناجح للأطراف. [4]
جين ميس (MEIS Gene) سيتم الحديث عنه في الفقرة التالية.


كيف تعرف الذراع من أين تبدأ بالنمو؟ لماذا لا ينمو يدين أو كوعين؟

يكمن السر في الذاكرة الموضعية (Positional Memory): حيث وجد أن الخلايا العظمية تمتلك صفة مميزة إضافية خاصة تسمى الذاكرة الموضعية (Positional Memory)، أي أن الخلية العظمية المتواجدة في الإصبع تحفظ أنها خلية عظمية تعيش في الإصبع، فإذا أخذت هذه الخلية وزرعت في البلاستيما لطرف مقطوع فإنها ستنمو وستشكل عظام الأصابع فقط ولن تشكل عظم الساعد أو جزء آخر من الذراع، بينما الخلايا الأخرى كالخلايا العصبية أو العضلية، فإنها لا تمتلك هذه الميزة، وإنما تتبع أوامر الخلايا العظمية لتشكيل أنسجة منطقة معينة من الذراع، والجين المسؤول عن هذه الصفة يسمى جين ميس (MEIS Gene) حيث وجد أن هذا الجين مسؤول عن عملية تحديد موقع الطرف المبتور الذي يجب أن تتكاثر فيه الخلايا لتكونه، حتى تستطيع تكوين طرف طبق الأصل عن سابقه، وتعد هذه الصفة مهمة جدًا حتى يتم بناء طرف جديد سليم خالي من التشوهات بغض النظر عن الكيفية أو المكان الذي قطع منه الطرف، والخلل في هذه الصفة سيسبب تشوهات كبيرة في عملية إعادة التجد. [5]



شكل بروتين (ميس)، المتكون من ترجمة جين ميس


صورة لحيوان الأكسولوتول توضح تكون كوعين للذراع اليمنى للحيوان، وذلك بسبب إضافة حمض الرتينويك (Retinoic acid) للذراع أثناء تجددها بعد أن تم بترها، مما تسبب في نمو زائد عن الحد لخلايا الذراع وتسبب في نمو كوعين بدل كوع واحد، حيث يسبب حمض الرتينويك خلل في عمل بروتين ميس عن طريق تكثيف عمل البروتين مما يتسبب في نمو زائد عن الطبيعي للخلايا.

كيف يمكن لهذه النتائج المساعدة في إمكانية استعادة الأطراف أو الأعضاء المفقودة لدى المرضى في المستقبل؟

البحث المستمر عن الجينات والبروتينات الداخلة في عملية التجدد سيمكننا في المستقبل من استغلال هذه المعلومات والنتائج واستخدامها في إعادة تجديد أعضاء الجسم التالفة كالعين أو إحدى الأعضاء الداخلية كالكبد أو الرئتين.

فمثلاً يمكن استخلاص هذه البروتينات وتكثيرها وإعطاءها للمرضى كحقن لتحقيق عملية التجدد أو استغلال هذه الجينات وحقنها في طرف الشخص المبتور كعلاج جيني، أو أن يتم تعديل جينات الأجنة قبل ولادتها بأن يكون لديها قدرة تجدد الأطراف وينتقل هذا الجين من جيل لجيل، إضافة إلى إمكانية إيجاد سر تحول الخلايا لوضع الغير متمايز (Undifferentiated Cells) مجدداًط بعد أن كانت متمايزة، الأمر الذي سيساعد مستقبلا في تكوين المزيد من الخلايا الجذعية وإمكانية الحصول عليها من مصادر مختلفة من الجسم غير نخاع العظم، والذي سيمكننا بدوره من استخدامها بفاعلية أكبر في عمليات زراعة الخلايا الجذعية.
هل يمكن تطبيق هذه النتائج في العاجل القريب؟

حتى مع كل هذه الآمال، فإن ما بإمكان البشر استخدامه والإستفادة منه في هذه التجارب محدود جدا حاليا، ويتركز فقط في إعادة تجديد الأعضاء الداخلية فقط مثل العين أو جزء من الحبل الشوكي أو إحدى الأعضاء الداخلية التالفة، أما أن يتم إعادة تجديد طرف بشري كامل كذراع أو ساق، فإن هذا بعيد المنال لدرجة أنه ما زال مستحيلا علميا الآن.


وكالات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button