وصف المدون

اليوم


سوري ينتصر بفنه على الفجائع
بدلا من أن يكون الجمال مصدرا للفوضى يسعى بعض الرسامين لاحتواء الفوضى في ظل شعور عميق بالفجيعة. الرسام السوري عادل داود يرسم كمن يتذكر وقائع سنوات الجحيم. هناك حياته الشخصية التي يحاول أن يجردها من العناوين الكبيرة لتكون ممكنة كما هي. وهناك إلى جانبها حياة الآخرين التي تمتزج فيها تقنية العيش المرتجلة بالمعاني التي صارت فارغة من القيمة مع الوقت.
في خضم حكايات الفجيعة
في كل لوحة من لوحاته كبيرة الحجم يرسم جزءا من الملحمة المأساوية وبعد أن يكمل الرسم يكتشف أن ذلك الجزء لم يكتمل. لذلك تبدو لوحاته كما لو أنها حلقات في سلسلة لا تنتهي.

رغبته في أن يقول كل شيء مرة واحدة تحاصره فتجعل ممارسة الرسم أشبه بطقس يغلب عليه البكاء. تلك جملة وصفية لا علاقة لها بالحكم الفني. فالرسام يغرف من ينابيع تعبيرية مختلفة، غير أن إقامته في النمسا وهبته الكثير من المواهب التي ارتقى من خلالها بقضيته إلى المستوى الذي يمتزج فيه الرسم بالأدب مع الحفاظ على الضالة الجمالية.

تقول رسوم داود ما لا تقوله الحكايات. ليس مهما ما تقوله أمام سحرها وقدرتها على شدّ عين المتلقي إليها. هناك جمال ظاهر تبدو عليه سعادة مؤقتة غير أنها بمثابة الرقم السري الذي يقود إلى عالم يمكن للرسام أن يشير إليه باعتباره عالمه الشخصي؛ "لقد ولدت هناك ومت أيضا"، تلك جملة أشبه بالوصية يضمّنها داود رسومه.

هل خاض الرسام في عالم السياسة؟ تلك موهبة أخرى استطاع من خلالها الرسام أن يتجاوز الواقع إلى عالم حلمي، تمر فيه الأحداث خفيفة، لا توحي بأن ما يُرسم يمكن أن يبقى إلا في اللحظة التي تمهد لتحليقه. لقد حرص الرسام على أن يكون حنينه لذائذيا فهو لا يرسم من أجل أن يعذب نفسه من خلال استعادة ذلك الألم الجماعي.

لوحاته كبيرة الحجم يرسم فيها داود جزءا من الملحمة المأساوية، وبعد أن يكمل الرسم يكتشف أن ذلك الجزء لم يكتمل. لذلك تبدو لوحاته كما لو أنها حلقات في سلسلة لا تنتهي

تعده رسومه بأنه سيكون هناك. أين يقع ذلك الـ"هناك"؟ ذلك الـ"هناك" هو ما يُلهم الرسام صورا عن عالم سيعيش فيه إلى الأبد.

ولد داود في الحسكة عام 1980 في عائلة كردية. قبل أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة في دمشق درس الرسم في مركز للفنون بمدينته. تخرج من الكلية عام 2011 وأقام معرضه الشخصي الأول عام 2012 في صالة "آرت هاوس" بدمشق. وكان قبل ذلك المعرض قد ظهر في عدد من المعارض الجماعية في مدن سورية مختلفة إضافة إلى مشاركته في معرض أقيم في السويد بعنوان "واحات من الشرق". بعد معرضه الأول أقام عشرة معارض في مختلف أنحاء لعالم. وهو يقيم ويعمل في فيينا بالنمسا.

يقول داود "أنا لا أرسم ترفا ولست باحثا عن جمال، إنما أحاول تعقل ذاتي والعالم. غير أن النتائج لا تعدو أن تكون نوعا من البكاء"، ربما تبدو خلاصة مرتبكة ومتناقضة. فبالرغم من أن الظرف التاريخي الذي ظهر فيه الرسام هو ظرف صعب على مستوى ما انطوى عليه من خسائر إنسانية، ذلك لأن حربا طويلة وبشعة في بلاده بدأت في السنة التي أنهى فيها دراسته الفنية ولم يكن الاستقبال سعيدا أو مريحا، انطوت النتائج الجمالية -التي صار الرسام يهذبها- في الكثير من منحنياتها على نبرة غنائية قريبة من كشوفات التجريد الغنائي لولا أنه كان تشخيصيا بحكم تتبعه لآثار الحكاية.

تلك واحدة من أهم المعضلات التي يفرضها موقف الفن من الحرب، واجهها داود بجرأة وشجاعة. جريء في حريته الفنية وشجاع في التزامه الإنساني. الرسام هرب بالحقيقة وحدها من غير أن يدخل في خلاف مع الأطراف المتحاربة. كانت الحقيقة أثقل من أن يحملها فرد، هو بالصدفة منشغل بسؤال "كيف يكون العالم أجمل؟"، من ذلك الصراع صار داود يستخرج عالمه جزءا مستعينا بذكرياته باعتبارها مقتنيات لا يمكن التفريط فيها، لا لأنها جزء من ماضيه الشخصي فحسب بل وأيضا لأنها تدير شؤون مستقبله.
شريك الضحايا في المنفى
مبكرا انتقل داود من مرحلة التشخيص الخالص -كان يرسم حيوانا بأطراف متعددة وبالأسود والأبيض- إلى مرحلة صار يمزج فيها بين التجريد والتشخيص مع ميل واضح إلى تغليب التجريد باعتباره خلاصة فكرة يتم التعبير عنها من خلال عناصر الرسم.

في معرضه "مساحات" الذي أقامه في قاعة رؤى بعمان كان تأثير نيكولا دو ستايل واضحا، وهو ما أمده بنوع من فهم العلاقات داخل اللوحة بمعزل عما يمكن أن تعبر عنه تلك العلاقات. كان ضروريا بالنسبة إليه أن يتحرر من الدرس المدرسي، لكن بوعي تجريبي عال.

داود يعيش صلحا داخليا مع كائناته التي صار يتعامل معها كما لو أنها مساحات أو جزء من مساحات قابلة للإضافة أو المحو، حتى اتصلت تلك الكائنات بعالمه من جهة كونها المحرض لقيام ذلك العالم

بعد تلك المرحلة صار يعيش صلحا داخليا مع كائناته التي صار يتعامل معها كما لو أنها مساحات أو جزء من مساحات قابلة للإضافة أو المحو. لقد اتصلت تلك الكائنات بعالمه من جهة كونها المحرض لقيام ذلك العالم. قادته تلك الكائنات إلى عالم يبدو أنه محظوظ في العثور عليه؛ ذلك لأنه من خلاله عثر على ذاته الغاطسة في ذكريات الحرب.

ومن الواضح أن كائناته الممتزجة بعالمه المتخيل لن تكون منفصلة عن طريقته في التفكير في اتجاهين؛ في الفن وفي الحرب. فكما قلت إنه لا يمزج بين الأمرين. من وجهة نظره لا يصلح الفن موقعا للثناء أو الهجاء. تبدو العلاقة بالضحايا هي الأكثر إلهاما. حمل تأوهات الضحايا معه ولكن إلى أين؟ إلى غربة يقاسمها فيها الشعور بالنفي.

حرص هذا الفنان على ألاّ يكون محايدا. كلفة الفن الثقيلة سيدفع ثمنها من غير أن يدخل إلى متاهات الحرب إلا باعتباره مدافعا عن الحياة أو بشكل أدق مدافعا عن الحق في الحياة. كل الكائنات التي رسمها والتي امتزجت بعالمه هي بطريقة أو بأخرى صورة منه.
لغة الوحوش
هرب من بلاده إلى المنفى وهرب من الحرب إلى الفن. تلك معادلة فهم أسرارها واستطاع من خلالها أن يتسلل بطريقة ناعمة إلى عالمه الذي سبق له وأن حلم به. ذلك العالم البري الذي تتجدد نضارته في كل لحظة رسم هو عالم يتوزع بين الحلم والرسم بالقوة ذاتها. غير أن ذلك لا يعني أنه ليس هناك مكان للوحوش التي ساهمت في صناعة الجزء الأكبر من عالمه. ما بين الحلم والرسم تقف الوحوش التي تتحول إلى مصدر إلهام بالنسبة إلى الاثنين. الوحوش هي تحلم أيضا من خلالنا وهي التي ترسم بأيدينا.

لقد تعلم الرسام لغة تلك الوحوش وصار يرسم مثل كائن بري يكتشف مفرداته التي حملها من بلاد، سيكون على صلة بها، لا من أجل أن يتذكرها بل من أجل أن يعيد اكتشافها. ففي لوحاته الكبيرة هناك متسع للحلم الذي يتكرر، لكن دائما بصور مختلفة.

"لقد رأيت وحلمت ورسمت"، يمكنه أن يقول ذلك. سيكون المتلقي حرا في تأليف المعمار الشخصي الذي يقاوم النسيان. غير أن الرسام لا يجرنا إلى السياسة. لديه هو الآخر مساحة للنسيان. وهو ما يمكن أن تقوله كائناته المهدمة. في الرمق الأخير سنواجه الفوضى باعتبارها حلا. وهو حل يظهر من خلاله الرسام ملونا بارعا. الحرب تنتج فنانين من طراز مختلف. الحرب تطارد الرسام غير أنها لن تتمكن منه. ذلك نوع من الانتصار للفن.

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button