ألقى تحقيق استقصائي الضوء على قصة فرار ضابط أمن رفيع في ميليشيا أسد إلى أوروبا، واختفائه هناك مستغلاً صِلاته بعدة أجهزة مخابرات دولية بما في ذلك إسرائيل.
التدرّب على يد النازيين
صحيفة نيويوركر الأمريكية استهلّت الجزء الأول من تحقيقها الاستقصائي المطوّل بالعودة إلى ستّينات القرن الماضي، حينما تعرض شخص يدعى جورج فيشر، لمحاولة اغتيال في دمشق من قبل إسرائيل ليتضح لاحقاً أنه ألويس برونر القيادي البارز في وحدات الأمن التابعة للحزب النازي " إس إس".
بحسب الموقع، ساعد برونر برفقة نازيّين آخرين في هيكلة أجهزة المخابرات السورية، ودرّبوا ضباطها على فنون الاستجواب في مراكز الاعتقال، وما زالت تقنياتهم مستخدمة حتى يومنا هذا، وكان من بين المتدربين خالد الحلبي، وهو ضابط تم تعيينه في أجهزة المخابرات عام 2001.
علاقة غرامية والعداوة مع "جامع جامع"
عندما اندلعت الثورة في سوريا عام 2011، كان الحلبي يشغل منصب رئيس فرع المخابرات العامة في الرقة، وبحلول شباط 2013، كان وقت الحلبي المنحدر من محافظة السويداء ينفد، ولا سيما أنه كان يخشى اثنين من مرؤوسيه العلويين. أمّا زوجته فرفضت وأولاده الإقامة بالرقة، وبمرور الوقت بدأ الحلبي علاقة غرامية مع امرأة كانت تعمل في وزارة البيئة وذكرت ممرضة أنه كان يطلب الفياغرا.
استغل خصومه مثل هذه التجاوزات، ولا سيما أن نظيره في المخابرات العسكرية، جامع جامع كان يُكِنّ له كراهية خاصة، ووفقاً للحلبي كان الأخير ينشر شائعات ضده بأنه يبقى مخموراً طوال الوقت، وأنه لا يغادر المكتب لأن هناك شباباً صغاراً يأتون لرؤيته، كما تعرضت سيارته لكمين عند نقطة تفتيش وكان مقتنعاً بأن جامع جامع هو من دبّره.
وفي آذار 2012، بعد أن قتلت قوات الأمن مراهقاً اندلع نزاع مسلح في المحافظة، وفي أحد الأيام، جمع الحلبي رؤساء أقسامه وأمرهم بفتح النار على أي تجمع يضم أكثر من أربعة أشخاص. قال إنه لم يكن قراره، وإنه قد تلقّى الأمر من رئيسه في دمشق علي مملوك.
بحلول نهاية عام 2012، استولى الجيش السوري الحر على أجزاء رئيسية من الطريق بين الرقة ودمشق، وفي 2 آذار اقتحم الثوار مدينة الرقة عبر حواجز التفتيش التابعة لقوات الحلبي.
الهروب وجنبلاط
بحسب أحد أعضاء القوة التي اقتحمت الرقة، تفاوض الحلبي مع قائد من كتيبة إسلامية قوية وعَد بترتيب هروب الحلبي، وعشية الهجوم، قام مسلحون بتهريب الحلبي إلى بلدة الطبقة الواقعة على سد الفرات وسلّموه إلى كتيبة أخرى اقتادته إلى منزل آمن بالقرب من الحدود التركية يملكه زعيم قبلي محلي يدعى عبد الحميد الناصر، وفي صباح اليوم التالي، قاد الناصر الحلبي إلى الحدود التركية، وعبَرَ الحدود راجلاً لكن الحلبي لم يشعر بالراحة في تركيا. من خلال وسطاء، اتصل بوليد جنبلاط لتسهيل انتقاله إلى لبنان، لكن جنبلاط "نصحه بالذهاب إلى الأردن"، وأرسل موفداً للتنسيق مع الأتراك والأردنيين بهذا الغرض.
رتّب رجال جنبلاط لقاء الحلبي مع ضباط دروز آخرين، منشقّين سوريين، ومخابرات أردنية، لدعم الثورة. لكن معظم الدروز بدؤوا يشكّكون في أن الحلبي لا يزال يعمل لصالح النظام.
وقال جنبلاط للصحيفة: "اكتشفنا أنه لعب دوراً سيئاً للغاية في الرقة"، معرباً عن اعتقاده أن الحلبي بذل قصارى جهده لخدمة النظام في الرقة وقد انقلب في اللحظات الأخيرة فقط لإنقاذ جلده، كما أكد جنبلاط أنه قطع وأتباعه كل الاتصالات مع الحلبي، وأنه لا يعرف أين هو.
في وقت لاحق من عام 2013، بعد أن نبذه زملاؤه الدروز، دخل الحلبي إلى السفارة الفرنسية في عمّان وهناك قدّم نفسه على أنه رئيس فرع استخبارات تتماشى أذواقه السياسية والثقافية مع أذواق الفرنسيين، وقال إنه يحب الكحول والعلمانية وفرنسا ومطبخها وحتى نابليون.
بعد شهور من التعامل مع مسؤولي السفارة الفرنسية، تعرّف الحلبي إلى رجل كان يعرفه فقط باسم جوليان. قال الحلبي لاحقاً: "بمجرد أن رأيته، فهمت أنه من جهاز المخابرات الفرنسي، لأنني أعمل في هذا المجال"، يبدو أن جوليان تطرق لإمكانية إنشاء علاقة مع المخابرات الفرنسية، لكن الحلبي رفض مشاركة معلوماته مجاناً، وقال: "أنا لست طفلاً، أنا ضابط مخابرات". وأبلغ جوليان بأنه لن يفكر في مساعدة الفرنسيين إلا إذا تم إحضاره أولاً إلى باريس وحصل على حق اللجوء السياسي، وإذا تم تهريب عائلته من السويداء.
الأخلاق والمخابرات لا يجتمعان
في شباط 2014 ، أصدرت السفارة الفرنسية في عمّان وثيقة سفر صالحة للاستخدام مرة واحدة وتأشيرة دخول، هبط الحلبي في مطار باريس في 27 من ذات الشهر وفقاً لختم الدخول، ونزل في أحد الفنادق.
وعلى حدّ تعبير الحلبي، بدأت "لعبة الاستخبارات" في هذه الآونة ولا سيما أنه كان بحاجة ماسّة للمال وكان من المفترض أن يقابله شخص ما في الفندق في غضون يومين من وصوله، للتكفل بأمور النفقات ومساعدته في التقدم بطلب للحصول على اللجوء والسكن، لكن ذلك لم يحدث.
بعد أسبوعين، نفد المال من الحلبي، الذي تواصل مع مموّل درزي في باريس كانت له صلات استخباراتية في الشرق الأوسط. وبعد تسلمه نقوداً ظهرت ضابطة مخابرات فرنسية تدعى هيلين، التي استشهدت باتصالاته الدرزية كدليل على ارتباط الحلبي بوكالات استخبارات أجنبية أخرى، وأضافت أنه لا جدوى من تقديم طلب اللجوء، ولم يرها حلبي مرة أخرى.
بعد تسعين يوماً، انتهت صلاحية تأشيرة حلبي، وتقدم بطلب للجوء على أي حال، وخلال المقابلة التي استمرت لأكثر من 4 ساعات اشتكى لضابط اللجوء من تجربته مع المخابرات الفرنسية وأصر أنه تعرّض للغش "وهو ما لا يتماشى مع الأخلاق الفرنسية".
أجاب ضابط اللجوء: "الأخلاق وأجهزة المخابرات لا يجتمعان". فردّ الحلبي: "أنا متأكد من أنهم سيتدخلون وأنا أستحق وثيقة إقامة لمدة عشر سنوات - اسألوا ضميركم".
فيما أجاب الضابط: "إن أرادوا التدخل فليفعلوا ذلك، لكننا لن نتّصل بهم وسوف نتخذ قرارنا بأنفسنا كما سيتعين علينا النظر في طلبك لفترة من الوقت نظراً لمنصبك".
قال الحلبي لضابط اللجوء الفرنسي: "عندما تتلقى أمراً كجندي، عليك أن تنفذه"، مضيفاً أنه لم يفعل قطّ أي شيء غير قانوني في سوريا، وأنه جاهز لفضح الأسد ونوابه في حال كانت هناك محكمة دولية.
التواصل مع طيارة
خلال وجوده في فرنسا وفي يوم من عام 2014 ، تلقى الكاتب والشاعر السوري المعارض نجاتي طيارة المقيم في باريس مكالمة هاتفية من الحلبي الذي أراد مقابلته وكان على معرفة به بحكم خضوعه للاعتقال مراراً لدى الأفرع الأمنية.
وافق طيارة على الاجتماع مع الحلبي في باريس، وخلال اللقاء أخبره أنه لم يرَ زوجته أو أطفاله منذ أكثر من ثلاث سنوات وأن ابنته الكبرى التي كانت تدرس في دمشق أُجبرت على ترك المدرسة واحتُجزت لفترة وجيزة، وأن زوجته وباقي أبنائه تعرضوا لرقابة مستمرة من قبل النظام، رغم أنه لم يعلن انشقاقه، بيد أنه أبلغ طيارة بأنه غادر سوريا لأنه "اتصل بالجيش السوري الحر، وأنه أعطاهم مفاتيح تسليم الرقة".
التقى الحلبي وطيارة مرتين أو ثلاث مرات في باريس، كانت اللقاءات ودية، ولم يفهم الأخير تماماً دوافع الحلبي للتواصل معه وأكد أنه لم يطلب منه أي مساعدة.
لكن يبدو كما لو أن الحلبي كان يهيّئ شاهداً يعزّز موقفه أمام مسؤولي اللجوء الفرنسي حيث أكد أمام ضابط اللجوء أن صديقه طيارة عضو مشهور في المعارضة وأنه اعتقله مُكرهاً وأحسن إليه داخل السجن لكن الضابط شكّك في نواياه.
الحلبي لم ينتظر قراراً بشأن وضعه كلاجئ، بعد عدة أشهر اختار الاختفاء مرة أخرى وقبل مغادرته باريس، أبلغ طيارة أنه قد يقصد النمسا.
البحث عن أبرز المجرمين
في عام 2015، تلقى كريس إنجلز، رئيس العمليات في لجنة العدالة الدولية والمساءلة Cija، معلومات من محقق في سوريا تفيد بأن الحلبي قد تسلل إلى أوروبا، في البداية كان إنجلز يأمل في إجراء مقابلة معه بصفته منشقاً، ولكن، عندما بدأ المحللون في بناء ملف عن الحلبي بالاعتماد على الوثائق وكذلك على شهادات من مرؤوسيه بدأ إنجلز يفكر في الحلبي كهدف محتمل للملاحقة القضائية بدلاً من ذلك.
لجنة العدالة الدولية والمساءلة اعتبرت أنه لا يوجد هدف أكثر أهمية في متناول السلطات الأوروبية من خالد الحلبي بصفته عميداً ورئيساً لفرع استخبارات وهو أعلى مجرم حرب سوري معروف وجوده في القارة الأوروبية، ولذلك بدأت عبر وحدة خبراء بتعقب آثاره الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي حيث عثرت على معرّفات له باسم أبو قتيبة تشير إلى أنه يعيش في الأرجنتين. لكن البيانات الوصفية على سكايب كشفت أنه أخبر طيارة بالحقيقة بشأن خططه إذ كان يسجّل الدخول باستمرار من هاتف محمول مربوط بعنوان IP في فيينا بالنمسا.
أورينت
شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة