وصف المدون

اليوم

AFP - فيينا:
ما زالت الحرارة عالية في فيينا هذه الأيام. لا شيء هنا يوحي بأن أيام البرد الشديد تقترب، إلا الليل الذي بدأ يحل أبكر كل يوم. وعندما يحل الليل، يبرز سحر فيينا الحقيقي. وتنير الأضواء كاتدرائية سان ستيفان وسط العاصمة، ومبنى الأوبرا الذي يبعد كيلومترات قليلة، وقصر هوفبورغ الأثري وكل المعالم التاريخية الأخرى.

apa

فيينا على عكس برلين، لم تتخذ قراراً بتوفير الطاقة ولا بإطفاء أنوار الأبنية العامة والمجسمات الأثرية ليلاً، رغم أن أزمة الطاقة ليلاً قد تكون أسوأ من جارتها ألمانيا. فالنمسا من أكثر الدول الأوروبية اعتماداً على الغاز الروسي، وهي كانت تستورد 80 في المائة من حاجاتها منه. انخفضت هذه النسبة إلى 50 منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لتتوقف تقريباً منذ أيام بعد أن أعلنت روسيا وقف ضخ الغاز إلى أوروبا والإبقاء على كميات قليلة ترسلها عبر خط أنابيب غاز يمر عبر أوكرانيا.

ويعتبر الغاز واحداً من أهم مصادر الطاقة بالنسبة للنمسا، وهي تستخدمه لتدفئة قرابة ثلث المنازل، ولإنتاج نحو 16 في المائة من الكهرباء وأيضاً كوقود لشاحنات النقل والمركبات الثقيلة ولتشغيل المصانع والمعامل. ومنذ أسابيع تحاول الحكومة التعويض عن الغاز الروسي بغاز تستورده من النرويج وهولندا، وقد ملأت خزاناتها الموجودة لديها بقرابة ٨٥ في المائة، وهي تقول إنها نسبة تكفي لاستخدام البلاد من الغاز لثلاثة أشهر على الأقل.

ولكن بعض المحللين يرون أنه سيكون على الأفراد والشركات البدء بتوفير الغاز لكي يمر الشتاء بأقل ضرر ممكن. ويقول كلاوس نويسر مدير معهد الدراسات العليا في فيينا، إنه يتعين توفير قرابة 15 في المائة من متوسط الغاز المستخدم في فصلي الخريف والشتاء، وإنه في حال حصل ذلك، فإن المخزون الحالي سيكون كافياً حتى شهر مارس (آذار) المقبل، ويرى نويسر أن «الوقت الحرج سيكون في أبريل (نيسان) القادم لأنه آنذاك يكون قد انتهى مخزون الغاز الموجود ويتعين البحث عن أسواق جديدة لاستيراد كميات إضافية من الغاز».

ارتفاع الأسعار
ويرسم محللون آخرون صورة أكثر تشاؤماً، مثل البروفسور هاينز غارتنر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيينا الذي يقول إن الأشهر المقبلة قد تشهد إغلاق عدد كبير من الشركات والمصانع وبطالة الآلاف وارتفاع مستوى الفقر بشكل كبير. 

ويرى غارتنر، أنه رغم امتلاء خزانات الغاز بنسبة 85 في المائة، فإن «الأسعار ما زالت ترتفع والكثير من السكان لم يعد بإمكانهم دفع الفواتير»، محذراً من أن مستوى الفقر سيرتفع وأن العديد من الشركات لن تعود قادرة على الصمود طويلاً ما سيؤدي إلى إغلاقها وبطالة الآلاف.

ولم تساعد الشركات والمصانع أن أزمة الغاز هذه جاءت في أعقاب أزمة وباء كورونا الذي دفع الكثير منها إلى حافة الانهيار أو حتى الانهيار. ومع بداية العودة إلى العمل بشكل طبيعي، قد بدأت الأسعار ترتفع بسبب زيادة الطلب على مصادر الطاقة، وانفجرت الأسعار مع بداية الحرب في أوكرانيا وهي ما زالت ترتفع.

وتعتبر الشركات المتوسطة والصغيرة الأكثر تأثراً بهذه الأزمة، مثل رائد عزاوي صاحب متاجر تبيع المأكولات الشرقية في فيينا.

ويقول عزاوي، وهو يعاين بقلق رسالة وصلته من شركة «فيين إنرجي» التي تزوده بالكهرباء، إن نفقاته ارتفعت ثلاثة أضعاف مؤخراً فيما هو لا يمكنه تمرير كل هذا الارتفاع للزبائن. ويقول وهو يقرأ بلاغاً جديداً من الشركة بارتفاع الأسعار، إن عمله يقتضي استخدام البرادات والمبردات بشكل دائم لحفظ الأطعمة، مضيفاً أن معظم المواد التي يبيعها يستوردها من مناطق مثل تركيا والأردن وهذه ارتفعت تكلفة نقلها بشكل كبير.

حزمة مساعدات
وتحاول الحكومة النمساوية تخفيف عبء ارتفاع الأسعار على السكان، وقد أقرت حتى الآن عدة حزم مساعدات، منحت فيها المستهلكين مساعدات مالية. ولكن خبراء يقولون إن هذه المساعدات ليست كافية لتعويض الفارق الكبير في الأسعار والذي ينعكس ليس فقط على فواتير الطاقة بل في التضخم الذي زاد على 9 في المائة في شهر يوليو (تموز) الماضي. وفي فيينا، زاد عدم اليقين المتعلق بأمن الطاقة، إعلان شركة «فيين إنرجي» التي تزود مليوني منزل في العاصمة بالكهرباء، عن حاجتها لدعم مالي من الحكومة يتراوح بين 6 ملايين و8 ملايين يورو. وأعلنت الحكومة أنها ستدعم الشركة التابعة لمدينة فيينا، بمليوني يورو ولكنها فتحت تحقيقاً حول عمليات تجارة غير شرعية قد تكون الشركة قامت بها أوصلتها إلى حافة الهاوية. ورغم أن النمسا تعتبر نفسها دولة «حيادية» فإن حياديتها هذه لم تكسبها الكثير مع روسيا، ووجدت نفسها وسط أزمة الطاقة نفسها التي تعيشها دول غربية أخرى أعلنت وقوفها بشكل كامل إلى جانب أوكرانيا. وامتنعت النمسا منذ بداية الحرب، عن إرسال أسلحة أو معدات عسكرية لأوكرانيا، واكتفت بإرسال بعض المساعدات الطبية.

حياد النمسا العسكري
ويقول مارتن شون رئيس قسم السياسة الدولية في جامعة إنسبروك، إن النمسا «بالمعنى العسكري ما زالت حيادية، فهي لم تزود أوكرانيا بأسلحة أو أي معدات عسكرية، لذلك هي ما زالت ضمن حياديتها العسكرية».

ولكنه يضيف أنها «شاركت أيضاً في العقوبات الأوروبية على روسيا، وهذا يعني أنها تدعم أوكرانيا بطريقة أخرى». ويرى شون أن حيادية النمسا «ليست بهدف كسب خدمات من روسيا».

وحاول المستشار النمساوي التوسط مع روسيا لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وكان أول مسؤول غربي يتوجه إلى موسكو ويلتقي الرئيس فلاديمير بوتين منذ بداية الحرب في فبراير (شباط) الماضي. والتقى نيهامر ببوتين في أبريل ولكنه عاد ليقول بأنه «لا يحمل أي انطباعات متفائلة»، واصفاً الزيارة بأنها «لم تكن ودية».

ورغم أن النمسا قد تعتبر نفسها حيادية ويمكنها أن تلعب دور الوسيط، فإنه من الواضح أن روسيا لا تراها بالصورة نفسها. ويقول شون عن ذلك إن «النمسا ترى نفسها من دون شك كوسيط، ولكن لا أرى كيف يمكن حصول ذلك في هذا الصراع، لأن النمسا جزء من الاتحاد الأوروبي وبالتالي هي جزء من العقوبات الأوروبية ضد روسيا، وهذا يصعب بشكل كبير أن تكون وسيطاً في هذا الصراع».

ومع ذلك بقيت النمسا مصرة على «حياديتها» تلك؛ فهي لم تفتح يوماً نقاشاً حول طلب الانضمام لحلف شمال الأطلسي كما فعلت فنلندا والسويد اللتان قلبتا عقوداً من الحيادية بعيد الحرب الروسية على أوكرانيا. 

ويمكن تفسير ذلك، بحسب شون، بواقع أن «الحيادية في النمسا جزء من الهوية الوطنية». ويضيف أنه «بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الحيادية طريقة لكسب صورة إيجابية محلياً وعالمياً، وفي النمسا الحيادية متأصلة على أنها أمر إيجابي».

ويشير شون إلى أن استطلاعات الرأي التي أجريت بعد الحرب على أوكرانيا حول الحيادية، تؤكد أن نظرة النمساويين إلى الحيادية أصبحت أكثر إيجابية. ويضيف أنه «بالنسبة للأطراف السياسية هنا النقاش حول الحيادية ليس مجدياً، وأصلاً تغيير الحيادية بحاجة إلى ثلثي الأغلبية في البرلمان وهذا غير وارد الآن».

ورغم ذلك، فإن حيادية النمسا لم تكسبها خدمات إضافية مع روسيا فيما يتعلق بالغاز. وتبدو مثلها مثل بقية الدول الأوروبية، تنتظر أشهر البرد القادمة وتأمل ألا يكون البرد شديداً يجبرها على استهلاك ما خزنته من الغاز بسرعة، وربما يزيد نقمة السكان ويملأ ساحات فيينا بالمتظاهرين الغاضبين عوضاً عن السياح.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button