وصف المدون

اليوم

independentarabia - فيينا:
أسهمت عوامل عدة في انتشار هذا التيار السياسي أبرزها تفكك هيكل الدول بتفتتها أو اتحادها.

Credit: Andreas Rentz/Getty Images

يؤكد الموقف العام من تقدم أحزاب "اليمين المتطرف" في أوروبا، سواء ببروزها مثلما هو الحال في فرنسا وإيطاليـا وبلجيكـا وألمانيا وهولنـدا والسويد والنمسـا واليونان، أو بطغيان مدى سياسي آخر عليها مثلما هو في دول أخرى، فإنه على رغم النجاحات التكتيكية التي حققها هذا التيار، فإن عنصر الدهشة لا يزال مسيطراً على المجتمعات السياسية الأوروبية، ذلك أن نجاح "اليمين المتطرف" في أوروبا حديثاً، تسرب من بين النظم السياسية لأخرى على شكل موجات بدأت هادئة، ثم زاد هديرها في العقدين الماضيين، لتصيب نجاحاً مقدراً في ثمانينيات القرن الماضي، إذ شاركت أحزاباً من ذلك الطيف السياسي في حكومات ائتلافية في كل من النمسا وكرواتيا وإستونيا وفنلندا وإيطاليا ولاتفيا وهولندا وبولندا وصربيا وسلوفاكيا وسويسرا، كما دعم "اليمين المتطرف" حكومات الأقليات في بلغاريا والدنمارك وهولندا والنرويج. وأصبحت هذه الأحزاب ذات ثقل شعبي وفاعلة سياسياً، حتى لو لم تشارك في السلطة، إلا أنها تظل مؤثرة على الرأي العام.

وتسببت عودة ظهور أحزاب "اليمين المتطرف" بحصولها أخيراً على قوة انتخابية صاعدة بسرعة في إثارة كثير من الجدل بين شرائح المؤسسات السياسية ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية نسبة إلى أن أفكار التيار الأساسية تنطوي على معتقدات غير ليبرالية وممارسات تؤيد "الفاشية" و"النازية" فيما تعارف عليه بمصطلح "القومية الجديدة"، بينما يرى أنصاره أنفسهم أنهم "مدافعون عن الديمقراطية الحقيقية".

ولأن أفكار "اليمين المتطرف"، ليست منبتة عن جذورها "الفاشية" و"النازية"، فالمتابع للتاريخ السياسي الأوروبي يدرك جيداً أنها كانت حاضرة بشكل ما في السياسة الأوروبية من خلال إعلاء نزعة القومية، ولكن ارتفاعها إلى هذا المستوى هو ثمرة تنشيط "الشعبوية" التي تنطوي على بروز حالة استياء عامة تجاه هيكل السلطة والقيم السائدة في المجتمع أياً كانت، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى وجد "اليمين المتطرف" في تماهي الحدود الفاصلة بين "الراديكالية" والليبرالية تربة خصبة انتهزتها النخبة الأوروبية المساندة له فاقترنت بالسلطوية ومعاداة الشيوعية والمهاجرين، مع الزعم بأن القوميات المتفوقة يجب أن تحصل على حقوق أكبر من غيرها ولديها مشروعية حكم على القوميات الدنيا.

خطاب ناقم
أجمع منظرون أوروبيون تتركز أبحاثهم على التطرف السياسي والشعبوية، وتشمل مجالات الأحزاب السياسية والديمقراطية والمجتمع المدني والسياسة الأوروبية، مثل أستاذ العلوم السياسية في جامعة بولونيا، بييرو إجنازي، والباحث الألماني هانس جورج بيتز، وعالم السياسة الهولندي كاس مود، وغيرهم، على أن أفضل تعريف عملي لليمين المتطرف المعاصر هو "الجمع بين أربعة عناصر هي: القومية والإقصاء المتمثل في العنصرية ورهاب الأجانب والاستعلاء العرقي، وفرض النظام والقانون بالقوة عبر التأثير على الشعب وإقناعه بأفضليته مقارنة مع النظام الديمقراطي البرجوازي ومعاداة التحزب ورؤية الدولة من منظور عضوي، وشوفينية الرفاهية بتحكم الدولة في بعض القطاعات الاقتصادية والاعتقاد بحرية تأثير قوى السوق الداروينية الاجتماعية من أجل بيئة أوروبا الغربية، ومناهضة العولمة لأنها تذيب الحدود الثقافية وتعمل على التفاعل بين الشعوب والقوميات".

ورأى هؤلاء المنظرون أن "هذا المفهوم يسمح بتصنيف أيديولوجي أساسي داخل تيار حزبي موحد، على رغم عدم تجانس الأحزاب اليمينية المتطرفة. ومع ظهور تشكيلات أخرى يشار إليها باليمين الراديكالي، واليمين الشعبوي، واليمين السلطوي، اتحدت مع اليمين المتطرف في النظر إلى القضايا من خلال منظور التسلط الفردي والديكتاتورية التي تنتهج طريقاً جاذباً ومؤثراً، في نقد موضوعات عدة أبرزها، الهجرة من العالم الثالث، خصوصاً أفريقيا، والتعددية الثقافية، والفساد السياسي، والإفراط في التنظيم من قبل الدولة والأعباء الضريبية، وتنزيه التكامل الأوروبي. وبينما ظل خطاب هذه التشكيلات على مستوى الانتقاد وليس الممارسة السياسية، انتهجت الأحزاب اليمينية المتطرفة خطاباً ناقماً على مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية الأوروبية.

عوامل الانتشار
على رغم من جذوره التاريخية التي ربطت "اليمين المتطرف" بفترة مـا بين الحـربين العالميتين، ثم انسحابه من الساحة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن جذوته لم تنطفئ تماماً. وأسهمت عوامل عدة في انتشاره أبرزها، العامل الأول، تفكك هيكل الدول بتفتتها أو اتحادها، ففي الوقت الذي أثر انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء دول على أصول إثنية باتجاه أوروبا الشرقية في انتهاج سياسة يمينية متطرفة، فإن الحدث النقيض في أوروبا الغربية بعد ذلك أدى إلى نفس النتيجة. عندما اندمجت تلك الدول في الاتحاد الأوروبي، وأثيرت نزعة البحث عن الأصول القومية وتجسيد ثقافة الحنين إلى الماضي، وتمجيد نماذج المجتمع الإثنو - قومية في مواجهة التغيير الاجتماعي الناتج عن التسامح وتعدد الثقافات والتناغم بين ثقافات مختلفة (الكوزموبوليتية)، من خلال تقديس التاريخ الوطني واستغلاله وإضفاء طابع مثالي على أبطاله.

أما العامل الثاني عند اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، فقد حدث ركود اقتصادي كبير في أوروبا، أدى إلى انتشار البطالة. ومن جانبها فرضت الحكومات سياسات اقتصادية متقشفة أدت إلى اتساع الفجوة بين مواطنيها، مما أدى إلى انتعاش الأفكار اليمينية المتطرفة الساخطة على العجز الليبرالي في إدارة الاقتصاد، وعلى المهاجرين الذين يزاحمونهم في الوظائف، كما أثرت الأزمة المالية على الطبقة العاملة، فتقلصت وانحسر الدعم الذي كانت توفره لأحزاب اليسار، مما سبب أزمة أيديولوجية كانت قد بدأت بانهيار الشيوعية.

العامل الثالث، شكلت أحداث "الربيع العربي" هزة لدى الأنظمة السياسية العربية، وبنتيجة الحروب والصراعات السياسية التي أعقبتها، خلقت موجات هجرة ولجوء إلى أوروبا لم تشهدها الأعوام الـ50 الماضية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي ظل هذا الوضع، تفاقمت حالة "رهاب الأجانب" وصحبها عنف محسوب على التيارات اليمينية المتطرفة، وعنف مضاد.

تمخض عن هذه العوامل وغيرها الوضع الحالي الذي أبرز فاعلية "اليمين المتطرف"، في أجواء من الأزمات المعيشية وأزمات الطاقة والحرب في مناطق عدة على رأسها الحرب في أوكرانيا، وجرائم تهريب السلاح والإرهاب، مما ينبئ باستمرار الظاهرة.

سمات أساسية
قد يواجه "اليمين المتطرف" بالمطالبة بتعديلات محتملة، فقد ترفض التيارات الليبرالية وجوده، وقد تحارب أحزاب اليسار و"اليمين المعتدل" التغييرات التي فرضها على المشهد السياسي الأوروبي، ولكن لليمين المتطرف تكتيكاته باعتباره حركة نخبوية يطرح أفكاراً غالباً ما تكون أيديولوجية تنادي بمبادئ مشتركة مع هذه التيارات بلسان، وتعارضها بلسان آخر، في الوقت الذي يحافظ فيه على سمات أساسية عدة. أولاً، "اليمين المتطرف" راديكالي ومتطرف أيديولوجياً وسياسياً ولكنه يخفي ذلك حتى لا يتهم بالنازية والفاشية مع أنه يسير على خطاها المناهضة للأيديولوجيات الشيوعية والرأسمالية والليبرالية، كما أنه يخشى من أن تترتب على معتقداته ومواقفه هذه تداعيات سياسية، من واقع أنه مناهض دائم للنظام القائم، أي الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية في أوروبا.

ثانياً، ينتهج "اليمين المتطرف" الشعبوية على طريقته الخاصة، وهي تعكس الإرادة العامة للشعب بعد استبعاد مجموعات معينة منه، يعتقد أنها لا تستحق الوصول إلى المزايا نفسها والحقوق، أي إنها شعبوية إقصائية وفق معايير غالباً ما تكون ثقافية أو إثنية أو دينية. وهي بالتالي مخالفة للشعبوية عند الأحزاب اليسارية في بعض دول العالم الثالث، المطالبة بالحقوق السياسية للطبقات المحرومة، وتلك التي وقعت عليها أعباء تاريخية مثل جماعات "السود" والفئات المهمشة اجتماعياً، وغيرها.

ثالثاً، تعد القومية سمة أيديولوجية مشتركة بين "اليمين المتطرف" و"اليسار المتطرف"، ولكنها في حالة الأول تفرض التطابق الإثني بحصول السكان الأصليين فقط على الوظائف والخدمات والرفاهية في دولتهم، بينما تؤمن أحزاب اليسار بالقومية المدنية ولا تمانع قبول مجموعة مشتركة في القيم والممارسات الثقافية، حتى لو مختلفة عنها إثنياً.

بوابة التاريخ
من فرنسا إلى بولندا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، دخل اليمين المتطرف الذاكرة السياسية من بوابة التاريخ. ففي عام 2017، دعا زعيم حزب اليمين المتطرف الألماني "البديل من أجل ألمانيا" الألمان إلى الفخر بأنفسهم وبإنجازات الجنود الألمان في الحربين العالميتين على غرار الفخر الفرنسي بنابليون بونابرت، والفخر البريطاني بونستون تشرشل. وفي فرنسا أعلن الصحافي الفرنسي إريك زمور، المرشح اليميني المتطرف للانتخابات الرئاسية الفرنسية، في سابقة، تفضيله النازية على الإسلام، متعهداً إعادة الهيبة إلى فرنسا. وفي اليونان صاغ حزب "الفجر الذهبي" اليميني المتطرف "تاريخاً بديلاً" متخيلاً يعزز العرق الأصلي في البلاد. وتمخض عن هذه الحالات تمجيد لنماذج المجتمع الإثنو قومية ففي فرنسا، حيث حققت مارين لوبن اليمينية المتطرفة نتائج معتبرة في الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2017، كما حققت أفضل نتيجة في تاريخ "اليمين المتطرف"، ببلوغها المرحلة الثانية من الاقتراع بعد إيمانويل ماكرون الذي احتل المرتبة الأولى بفارق صغير عنها، لكنها خسرت الانتخابات في الدورة الثانية وفاز ماكرون. وفي السويد، صعد حزب "ديمقراطيو السويد" اليميني المتطرف، سليل الحركة النازية الجديدة، من خانة التهميش إلى احتلال مرتبة ثاني أكبر حزب سياسي في البلاد، بعد الحزب "الديمقراطي الاجتماعي"، محققاً فوزاً كبيراً في الانتخابات السويدية التي جرت أخيراً في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي إيطاليا، مهد الحراك الكثيف لأيديولوجية اليمين المتطرف الفرصة لفوز جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "فراتيلي ديتاليا" (أخوة إيطاليا) في الانتخابات الإيطالية في سبتمبر الماضي، لتصبح أول امرأة تتسنم رئاسة الوزراء في تاريخ إيطاليا.

صنع المظالم
تناول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية بنسلفانيا، مات غولدر، المظالم التاريخية التي ارتكزت عليها "أحزاب اليمين المتطرف" في أوروبا، وأسهمت في تفسير النجاح الانتخابي الذي حصلت عليه وهي مكونة من مظالم التحديث، والمظالم الاقتصادية، والمظالم الثقافية.

وينطلق هذا التفسير من واقع أن المجتمعات الصناعية تدعم بشكل أو بآخر القيم اليمينية المتطرفة، ولكنها تظل كامنة في الظروف العادية، ولا تظهر في المشهد السياسي إلا عند حدوث الأزمات فيتم تسييسها وحشدها من خلال عملية التحديث التي يتم فيها أيضاً فرز لأولئك الذين لا يتواءمون مع التغيير المجتمعي فيتجهون إلى أقصى اليمين. وهنا تبدو حالة التظلم الاقتصادي متوائمة مع التظلم الثقافي والاجتماعي في ما يتعلق بالهوية الاجتماعية، فمثلما يشكو اليمينيون المتطرفون من منافسة المهاجرين في الوظائف والخدمات، فإنهم يشكون من وجودهم معهم في مجتمع واحد، مشددين على "تفوق" السكان الأصليين عليهم واختلافهم عنهم في المعايير السلوكية والثقافية.

سحب البساط
قد تغضب النخب الأوروبية والتكنوقراط وأحزاب الوسط وحتى اليسار من سحب البساط من تحت أقدامها، ولكن لأن هذه الأحزاب الفائزة جاءت بها أصوات الجماهير، لا يستطيع أحد أن يعترض على مبدأ الديمقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وبناءً على ذلك سيكون أمام "اليمين المتطرف" أحد مسارين، فإما أن تكون لديه فرصة في الوحدة بين الشركاء الأيديولوجيين في أوروبا، مثلاً في الأفكار المناهضة للهجرة، وفي هذه الحالة فإنه يتوجب عليه مواصلة السير على المتناقضات الديمقراطية الليبرالية والسلوكيات القومية الشعبوية ما يضمن تصاعده. أو أن تؤدي حالات الإقصاء التي يتجاوز بها "اليمين المتطرف" الشعب إلى التيارات السياسية الأخرى ويمارس عليها ضغطاً كبيراً، وأكثر المؤهلين للمواجهة معه في صراع سياسي، وأشدها، نقيضه تيار "أقصى اليسار"، لأن "اليمين المتطرف" يدعي الإيمان بالديمقراطية وينفذها إذا ما كانت في مسار إيصاله إلى الحكم.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button