INFOGRAT - فيينا:
مع اقتراب الانتخابات التشريعية في النمسا لعام 2024، تبدو الساحة السياسية مضطربة وغير مستقرة، حيث تشهد البلاد انقسامًا واضحًا بين القوى السياسية التقليدية والتيارات الشعبوية. حزب الحرية النمساوي (FPÖ)، الذي يمثل اليمين يواصل تصدره لاستطلاعات الرأي، مما يضعه في موقف قوي في ظل تزايد مشاعر الاستياء من الأوضاع الاقتصادية والهجرة. هذا الصعود اللافت للحزب الشعبوي يطرح تساؤلات حول إمكانية تشكيل حكومة مستقرة في فترة ما بعد الانتخابات، ويثير مخاوف بشأن مستقبل التحالفات السياسية في البلاد.
شهد حزب الحرية النمساوي (FPÖ) بقيادة هيربرت كيكل نموًا غير مسبوق في شعبيته خلال العام الماضي، مستفيدًا من الأزمات المتفاقمة في النمسا، وخاصة أزمة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. خطابه السياسي المناهض للهجرة والأوروبيين، والذي يُركّز على حماية الهوية الوطنية، يلقى قبولاً واسعًا بين الناخبين المتضررين من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الحالية. ومع ذلك، يعاني الحزب من تاريخ مضطرب، حيث لا تزال فضيحة "إيبيزا" تلقي بظلالها عليه، ورغم ذلك، لم تؤثر هذه الفضيحة كثيرًا على القاعدة الشعبية للحزب.
تراجع حزب الشعب النمساوي (ÖVP)
على الجانب الآخر، يواجه حزب الشعب النمساوي (ÖVP)، بقيادة المستشار الحالي كارل نيهامر، ضغوطًا هائلة للحفاظ على موقعه في السلطة. الحزب الذي قاد التحالف الحاكم في الفترة الماضية، يعاني من تراجع شعبيته بسبب التحديات الاقتصادية التي لم يستطع معالجتها بشكل جذري، إلى جانب تداعيات الفضيحة المتعلقة بالزعيم السابق سباستيان كورتس. وعلى الرغم من محاولات الحزب لإطلاق برامج دعم تهدف إلى تحسين ظروف الأسر المتضررة من التضخم، إلا أن الثقة في قدرته على القيادة قد تأثرت سلبًا، ويبدو أن البحث عن شركاء للتحالف بات أمرًا حتميًا إذا أراد الاستمرار في السلطة.
الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPÖ) وأزماته الداخلية
بالإضافة إلى التحديات الخارجية، يواجه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPÖ) تحديات داخلية كبيرة. تعرّض الحزب لانقسامات حادة في قيادته بعد الصراع على الزعامة بين الفصائل المختلفة. في نهاية المطاف، تم انتخاب أندرياس بابلر كزعيم جديد بعد أزمة في فرز الأصوات، لكن هذا الصراع الداخلي أدى إلى تشويه صورة الحزب وإضعاف قدرته على التنافس في الانتخابات القادمة. رغم هذه الأزمات، يسعى الحزب إلى تعزيز مواقفه بالتركيز على القضايا الاجتماعية مثل العدالة الاجتماعية والتغير المناخي، إلا أن قدرته على جذب الناخبين تبقى محل شك.
التحالفات الممكنة والمعقدة
يبدو أن النتيجة الأكثر ترجيحًا بعد الانتخابات هي الحاجة إلى تشكيل ائتلاف حكومي معقد. على الرغم من تصدره الاستطلاعات، قد يواجه حزب الحرية النمساوي صعوبة في العثور على حلفاء لتشكيل حكومة. حزب الشعب (ÖVP) والخضر من أبرز القوى التي قد ترفض التحالف معه بسبب تباين المواقف الأيديولوجية. ومع ذلك، تبقى احتمالية تحالف حزب الشعب مع حزب الحرية قائمة، خاصة إذا ما تعذر عليه العثور على شريك آخر.
بالإضافة إلى ذلك، قد يسعى حزب الشعب إلى إعادة تشكيل التحالف الحالي مع حزب الخضر، رغم الفجوة الكبيرة بينهما في القضايا البيئية والاجتماعية. ومع تعمق الانقسامات الأيديولوجية، يبدو أن تشكيل حكومة مستقرة سيتطلب تسويات كبيرة من جميع الأطراف.
القضايا المحورية في الانتخابات
الاقتصاد والهجرة يتصدران قائمة القضايا الانتخابية. مع ارتفاع التضخم وتزايد الضغوط على الطبقات المتوسطة والعاملة، يركز حزب الحرية على تشديد قوانين الهجرة وحماية الحدود، وهو ما يجد صدى واسعًا بين ناخبيه. في المقابل، تركز الأحزاب اليسارية مثل SPÖ والخضر على قضايا مثل العدالة الاجتماعية، مكافحة التغير المناخي، وزيادة الإنفاق على الخدمات العامة.
توقعات المراقبين
يتوقع المراقبون أن تكون هذه الانتخابات من أصعب الانتخابات في تاريخ النمسا الحديث. إذا تمكن حزب الحرية النمساوي من تحقيق نتائج قوية، فإنه سيواجه تحديات كبيرة في بناء ائتلاف حكومي. من جهة أخرى، ستحتاج الأحزاب التقليدية إلى تحالفات جديدة أو إعادة إحياء التحالفات السابقة من أجل الحفاظ على استقرار النظام السياسي.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل سيستطيع حزب الحرية النمساوي تحويل هذه الشعبية إلى سلطة حقيقية في الحكومة؟ وهل ستتمكن الأحزاب التقليدية من صد هذا الصعود الشعبوي ؟
الكاتب والمحلل السياسي سامر الأسمر
فيينا 17.9.2024
شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة