التكريم الوهمي في فيينا: حين تتحول القلادة إلى سلعة رخيصة في سوق العلاقات

مقال رأي لـ أحمد مراد

تشهد الأوساط العربية في فيينا في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملفتًا لما يمكن تسميته بـ”ظاهرة التكريم الوهمي”، حيث تتكرر مشاهد تقديم الدروع والقلائد والشهادات التقديرية بين بعض الأفراد والجمعيات العربية، في مناسبات يغلب عليها الطابع الاجتماعي الدعائي، دون أن تكون مؤطرة بأسس ومعايير موضوعية تبرر هذا النوع من الاحتفاء. وهو ما يدفع إلى طرح جملة من التساؤلات الجوهرية: هل هذا التكريم مستحق فعلًا؟ من يحق له تكريم من؟ وعلى أي أساس؟ وهل نحن بصدد عقدة نقص تُلبس قناع الاعتراف بالإنجاز، أم انزياح ثقافي غير واعٍ لتمجيد الذات من دون محتوى حقيقي؟

م. أحمد مراد
اعلامي عربي
مقيم في فيينا

ما هو “التكريم” أصلًا… ومن يملك شرعيته؟

التكريم، بمفهومه المؤسساتي والمجتمعي، هو فعل رمزي يُمنح لإنسان أو مجموعة بشرية تقديرًا لجهد علمي، إنجاز مهني، مساهمة مجتمعية أو تفوق ثقافي. ويُفترض أن يصدر من جهة تملك مقومات التقييم والمشروعية، مثل مؤسسة أكاديمية، هيئة علمية، أو جهة رسمية تعكس ثقافة الدولة ومقاييسها في التميز.
لكن ما يجري في بعض دوائر الجالية العربية في النمسا يبتعد كثيرًا عن هذه المعايير. فالتكريم يتحول إلى أداة تبادلية أشبه بمقولة “كرّمني لأكرمك”، حيث يقدّم الدرع اليوم ليُردّ الدرع غدًا، وغالبًا دون خلفية واضحة حول الإنجاز المُفترض أو معايير منحه.

المعايير الغائبة… والعدوى العربية

هنا تبرز المعضلة: هل يجب أن يخضع التكريم لمعايير تتماشى مع الدولة المضيفة، أي النمسا، التي تحتكم في مؤسساتها إلى أسس دقيقة قائمة على الشفافية، الإنجاز الفعلي، والإنتاج الفكري أو الخدمي؟ أم أننا سنواصل استيراد أنماط شكلية من بعض النظم العربية حيث يُكرّم “المسؤول” فقط لأنه “مسؤول”، أو تُمنح الألقاب بالجملة تبعًا لولاءات لا لإنجازات؟

يبدو أن جزءًا من الجالية لا يزال أسيرًا لثقافة “الواجهة”، حيث تغلب الصورة على المضمون، والمظهر على القيمة. وبالتالي، يتحول التكريم من فعل احتفاء ناضج إلى مهرجان مرايا، يعكس هشاشة التقدير الذاتي لدى بعض الفاعلين، أكثر مما يعكس تقديرًا حقيقيًا من المجتمع لهم.

قبول المكرَّم… سؤال آخر

الأدهى أن بعض من يُكرّمون يقبلون هذا “الاعتراف” من شخصيات أو كيانات تفتقر هي نفسها لأي رصيد معرفي أو اجتماعي أو إنساني مرموق. وهنا نسأل: هل من المقبول أن يتحول تكريم الذات إلى آلية لتضليل الذات والمجتمع معًا؟
هل يعلم المكرَّمون أن القلادة التي يتسلمونها لا تتعدى قيمتها بضعة سنتات في سوق الجملة؟ وهل يدركون أن فعل القبول بحد ذاته يشكّل خديعة رمزية للمجتمع، عبر تصدير صورة زائفة للنجاح والتميز؟

تكريمات على طريقة ستوكهولم… تعاطف مع رموز بلا شرعية

وفي سياق تحليل الدوافع النفسية الكامنة خلف هذه الظاهرة، يمكن المقارنة بينها وبين ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ”متلازمة ستوكهولم” (Stockholm Syndrome)، وهي حالة نفسية يطوّر فيها الفرد تعاطفًا أو ولاءً لمن يُمارس عليه نوعًا من السيطرة أو النفوذ، حتى وإن كان ذلك على حساب كرامته أو وعيه النقدي. وبالمثل، فإن بعض من يُكرَّمون ضمن هذا المناخ الاحتفائي الزائف قد يجدون أنفسهم، دون وعي، أسرى لحاجة عاطفية داخلية للاعتراف، فيتعلقون بأي رمز تكريمي يُمنح لهم، ولو من جهات تفتقر للمصداقية. بل إن بعضهم قد يروّج لهذا “التكريم” وكأنه وسام شرف حقيقي، رغم إدراكه العميق بأن خلفيته فارغة من أي إنجاز فعلي. هذا النوع من التماهي مع المكرِّم، حتى وإن كان لا يمتلك شرعية أخلاقية أو مؤسسية، يعكس جانبًا مرضيًا من العلاقة بين الفرد وبيئته الاجتماعية، حيث يتم تطبيع القبول بالهشاشة والادعاء مقابل الإحساس المؤقت بالاعتبار.

تكريمات فردية بدوافع وجدانية… لكنها لا ترقى إلى الإنجاز العام

ولعلّ من الإنصاف الإشارة إلى أن بعض هذه التكريمات قد تصدر أحيانًا بدافع العرفان الشخصي بجميل سابق أو كردّ لاعتبارٍ معنوي تجاه من قدّم دعمًا فعليًا أو خدمات ملموسة لجمعية ما أو لنشاط مجتمعي محدود النطاق. في مثل هذه الحالات، قد يكون للتكريم دافع وجداني صادق، غير أنه يبقى محصورًا في إطاره المحلي والآني، ولا يرقى لأن يُقدَّم أو يُسوَّق على نطاق أوسع كإنجاز عام يُفاخر به. ذلك أن الخلط بين التكريم الرمزي الخاص والتكريم المؤسسي الموضوعي يُفرغ الفعل من معناه، ويحوّله إلى أداة دعائية مفرغة من المحتوى، تعكس في جوهرها قصورًا في إدراك الفرق بين الاعتراف الشخصي والعطاء المجتمعي الحقيقي.

غياب الرقابة و”بطولات الكرتون”

تُسَوَّق هذه الممارسات في وسائل التواصل وبعض المنصات المجتمعية على أنها إنجازات وبطولات، دون أن يرافقها أي تدقيق أو مساءلة. وهنا يغيب السؤال الأخطر: من يراقب؟ ومن يحق له أن يرفض هذه الظاهرة؟
للأسف، لا توجد آلية رقابية واضحة، ولا جهاز مجتمعي قادر على غربلة الإنجاز من الوهم، خصوصًا وسط صمت الجمعيات الكبرى وغياب العمل المؤسساتي المنظم، ما يجعل هذه المظاهر تتكرر مرارًا على شكل “دروع” و”شهادات” و”ألقاب” تُمنح بيسر وتُسحب فقط في حالات الخلافات الشخصية لا ضعف الإنجاز.

ثقافة مريضة بحاجة إلى علاج

وصلت بعض الجمعيات العربية في فيينا إلى مستوى متدنٍّ من الوعي الثقافي، لدرجة أنها تجترّ هذا السلوك عامًا بعد عام، كأنه طقس موسمي لا بد منه. القلادة حاضرة، والدرع حاضر، والشهادة الجاهزة التي تُطبع في دقائق وتُمنح في دقائق أخرى، بل وتُنشر على منصات التواصل لتجمع “الإعجابات” و”المباركات”، لكنها لا تترك أثرًا حقيقيًا في الوعي الجمعي.

نحو ثقافة تكريم حقيقية… لا زائفة

لكي نرتقي كمجتمع عربي في النمسا، يجب أن نُعيد تعريف التكريم: ليس كل نشاط يُوثق بالصور يستحق الاحتفاء، ولا كل من تحدث أمام جمهور هو بالضرورة قائد رأي.
إن الاحتفاء الحقيقي يجب أن يُبنى على أسس معرفية ومجتمعية، تكرّم الطبيب الذي يخترع أو يكتشف، المعلم الذي يترك بصمة، الأكاديمي الذي ينشر، العامل الذي يُتقن، والفنان الذي يُبدع.

تكريم الكفاءة الحقيقية، لا “الوجاهة” الشكلية، هو ما يجب أن نسعى إليه. فالمجتمع المثمر لا يُبنى بالتصفيق للوهم، بل بالاحتفاء بالحقيقة، ولو كانت صامتة.

خاتمة

قد نصل يومًا إلى مستوى ثقافي ناضج نحتفي فيه جميعًا بالمنجز الحقيقي، ونرفض فيه ثقافة “الدرع مقابل الدرع”. لكن هذا لن يحدث ما لم تجفف العقول من أوهام المجد الرخيص، وتُروى بقيم البحث، النقد، والإبداع.
فحين تُثمر العقول، تنهض المجتمعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى