الجالية الفلسطينية في النمسا.. “إكرام الميت دفنه”
مقال لـ أحمد مراد
فيينا – INFOGRAT:
عانت الجالية الفلسطينية في النمسا، إحدى أقدم الجاليات العربية في البلاد والتي تعود جذورها إلى ما قبل ستينيات القرن الماضي، من حالة تشرذم مزمنة وتراجع واضح في تأثيرها المجتمعي والسياسي، بفعل التشظي الإيديولوجي والانغلاق على الذات، واستمرار الارتهان لخطابات وتنظيمات لم تعد تملك صلة بالعصر، ولا بواقع الشتات الفلسطيني المتغير.

اعلامي عربي
مقيم في فيينا
وعلى الرغم من أن اللحظة التاريخية التي أعقبت عملية 7 أكتوبر 2023، والتي شنتها حركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة، قد أعادت تسليط الضوء على القضية الفلسطينية واستنهضت تعاطفاً شعبياً واسعاً في النمسا، إلا أن هذا الالتفاف سرعان ما تلاشى، وتحول إلى انقسام جديد، أعمق وأشدّ قسوة، خاصة بعد رد الفعل الإسرائيلي العنيف ضد قطاع غزة، وما تبعه من اتهامات لحماس بـ”تقديم بطاقة مجانية لبنيامين نتنياهو لمواصلة التدمير”، نتيجة تمسكها بعدم تسليم الرهائن وإصرارها على خطاب العدمية والمجابهة المستمرة، حسبما يرى مراقبون وسكان من داخل القطاع.
الانتماءات السياسية تُجهض التوحد
في ظل هذا السياق المتأزم، فشلت الجمعيات الفلسطينية في النمسا في توحيد صفوفها أو تقديم مشهد فلسطيني موحد أمام الرأي العام النمساوي. إذ بات واضحاً أن الانتماءات السياسية والتنظيمية هي الحَكم الأول في كل نشاط أو مبادرة، فالجالية مقسّمة إلى أطياف متناحرة: من يساريين يرفعون شعارات تجاوزها الزمن، إلى إسلاميين وفتحاويين وحمساويين، تُوحّدها “الطبلة” وتُفرّقها “العصا”، في إشارة إلى طابعها المناسباتي والهش.
غياب الحوار بين أبناء الجالية من مختلف الأعمار هو نتيجة مباشرة لهذا الانقسام. فالإيديولوجيا، المدعومة بخطاب إعلامي تحريضي تبثه جهات مثل قناة الجزيرة وما يُسمى بـ”محور المقاومة”، ساهمت في فرض مناخ من الإقصاء والتخوين داخل الساحة الفلسطينية في النمسا. وبدلاً من توجيه الجهود نحو العمل المدني المتوازن، لجأت الجمعيات إلى استبعاد الأصوات النقدية والمتزنة، التي رفضت الانخراط في تأييد تنظيمات مصنفة إرهابية داخل النمسا مثل حركة حماس، مما ساهم في مزيد من العزلة والركود.
هيمنة السفارة الفلسطينية
على مستوى التمثيل الرسمي، تُظهر المعلومات المسربة من مصادر مطلعة ومراقبين أن السفارة الفلسطينية في النمسا تمارس دوراً رقابياً صارماً على المشهد الجمعوي، خصوصاً جمعية “الجالية الفلسطينية” التي تقع في الحي الثالث في فيينا. هذه الجمعية، حسب المعطيات، لا تتحرك إلا بتوجيهات واضحة من السفارة، التي تحدد لها ماذا تقول، وأين تذهب، وكيف تنظم فعالياتها. هذا الشكل من التوجيه السياسي القسري حرم الجالية من استقلاليتها، ومن إمكانية إنتاج رؤية ذاتية تتناسب مع بيئتها النمساوية ومعايير العمل المدني في دولة ديمقراطية.
تراجع الجمعيات الحمساوية وظهور أقنعة جديدة
وعلى الجانب الآخر، لم تكن الجمعيات المحسوبة على حركة حماس بأفضل حال. فمع تصفية قادة الحركة في قطاع غزة، وانكشاف فشل مشروعها السياسي والعسكري، بدأت هذه الجمعيات بالتراجع والانسحاب التدريجي من المشهد العام. لكن هذا الانسحاب لم يكن كاملاً، إذ ظهرت كيانات جديدة بأسماء مختلفة ولكن بروح حمساوية إقصائية وعدمية، لا تؤمن بالحوار ولا بالشراكة المجتمعية، بل تعمل على إنتاج خطاب مقاوم شكلاني يعيد تكرار الفشل.
الحاجة إلى مراجعة جذرية
أمام هذا الواقع المأزوم، لم تعد الجالية الفلسطينية في النمسا تملك ترف الوقت أو انتظار الحلول من الخارج. المطلوب اليوم مراجعة شاملة، تقطع مع الانتماءات الحزبية الجامدة، وتعيد بناء الجالية على أسس وطنية، ديمقراطية، تمثيلية، تحتضن الطاقات الشابة، وتمنحها دور القيادة في إعادة صياغة الدور الفلسطيني في النمسا، بعيداً عن الفئوية، وبما يليق بتاريخ الفلسطينيين هناك، وبما يواكب تطلعات أبنائهم المولودين في أوروبا والذين لم يعد يربطهم شيء بالماضي سوى شغف مشوش بالهوية.
إن إكرام الميت دفنه، والجالية الفلسطينية اليوم بحاجة إلى دفن خلافاتها، ومصارحة نفسها بأوجه الفشل، كي تعيد بعث الحياة من جديد في جسدها الذي أنهكته الحزبيات، وأعاقه خطاب الضحية إلى درجة الجمود.



