النمسا تتوقع 460 مليون يورو إنفاقاً في “الأسبوع الأسود” والمنصات الخارجية تستحوذ على الحصة الكبرى
تحول يوم الجمعة الأسود (Black Friday)، المدفوع بصعود التجارة الإلكترونية خلال السنوات القليلة الماضية، إلى ركيزة ثابتة في المشهد التسوقي بالنمسا. فقد تجاوز المفهوم بالفعل كونه يوماً واحداً ليصبح “الأسبوع الأسود” (Black Week)، بل وامتد ليشمل “نوفمبر الأسود” بأكمله. كما أن “الاثنين السيبراني” (Cyber Monday) أصبح له الآن “أسبوع سيبراني” كامل. باختصار، لم يعد بإمكان المستهلكين أو التجار تفادي هذه المعركة السنوية على الصفقات والأسعار المخفضة، بحسب وكالة الأنباء النمساوية (APA).
على الرغم من أن يوم التسوق القوي تقليدياً الذي يلي عيد الشكر في الولايات المتحدة كان يُطلق عليه “الجمعة الأسود” بشكل متقطع في خمسينيات القرن الماضي، إلا أن المصطلح احتاج إلى عقود ليترسخ في الثمانينيات. وصل المفهوم إلى أوروبا في وقت متأخر، أي قبل حوالي عشر سنوات، بالتزامن مع انطلاق المتاجر الأمريكية عبر الإنترنت مثل Amazon. تبع ذلك مباشرة “الاثنين السيبراني” الذي خُلق في الأصل للتجارة الإلكترونية.
واليوم، أصبحت “غابة الصفقات” غير قابلة للإدارة تقريباً؛ ففي حين أن هذا ينطبق بشكل خاص على التجارة الإلكترونية الكلاسيكية، فإنه نادراً ما يستطيع أي متجر إلكتروني أو تاجر تقليدي في النمسا تحمل عدم تقديم خصومات. وهكذا، تنتشر إعلانات “وعود التوفير” في شوارع التسوق والمراكز التجارية على حد سواء.
المنصات الكبرى هي المستفيد الأكبر
يتوقع “اتحاد التجارة النمساوي” (Handelsverband) أن تصل نفقات المستهلكين النمساويين خلال “الأسبوع الأسود” (بما في ذلك الجمعة الأسود والاثنين السيبراني) إلى حوالي 460 مليون يورو. وفي العام الماضي، أنفق المستهلكون المحليون ما يقدر بـ 400 مليون يورو في إطار “الأسبوع الأسود”. أما الرقم القياسي فقد تحقق في عام 2022 بـ 450 مليون يورو. ومن المتوقع أن يذهب جزء كبير من إنفاق هذا العام مرة أخرى إلى شركة Amazon. وعلّق Rainer Will، المدير التنفيذي لاتحاد التجارة، قائلاً: “للأسف، يتدفق جزء متزايد من هذه الأموال إلى الخارج”.
من وجهة نظر باحثي التجارة، تُعد أيام التخفيضات هذه بيئة صعبة بشكل خاص لتجار التجزئة التقليديين الصغار في النمسا. وصرّح Ernst Gittenberger من معهد التجارة بجامعة Uni Linz بأن “معركة الخصومات قد تحولت منذ فترة طويلة إلى عرض للمنصات الكبرى عبر الإنترنت؛ وهي عملية بيع إقحامية في سوق يتسم عادةً بتحفظ المستهلك في الشراء”. ويستفيد من هذه الظاهرة بشكل رئيسي Amazon ومنصات الأسعار المنخفضة الصينية مثل Temu وShein.
“الخوف من الفوت” (FOMO) والدوبامين
يرتبط ازدهار “مطاردة الخصومات” أيضاً ببعض الحيل النفسية التي يُعمل بها، والتي من شأنها أن تحفز حتى إنسان العصر الحجري على الشراء. يتم الترويج للمنتجات باستخدام ألوان لافتة، ويتم في الوقت نفسه بناء ضغط زمني وتنافسي عبر الإشارة إلى ندرة العرض المزعومة، مما يوحي بأن الآخرين قد يقتنصون المنتج. يؤدي هذا الأسلوب إلى إثارة “الخوف من فوات الفرصة” (Fear of missing out أو “FOMO”)، مما يدفع المستهلك إلى المطاردة والتجميع – والشراء.
ويُفرز الجسم مادة الدوبامين (وهو ناقل عصبي مسؤول بشكل رئيسي عن نظام المكافأة في الدماغ ويرتبط بظاهرة “هوس الشراء”) في هذه العملية، حتى بمجرد توقع الحصول على صفقة جيدة. وتشير الدراسات إلى أن حجم التوفير يلعب دوراً حاسماً في ذلك.
هل الأسعار أرخص حقاً؟
يبدو أن الإعلان عن حجم الخصم هو إحدى الحيل الحاسمة. لم يعد هذا الأمر سراً في أوقات التخفيضات: فمنذ فترة، أصبحت سلاسل السوبر ماركت النمساوية تبرز مقدار التوفير الناتج عن العروض الخاصة وغيرها من التخفيضات بوضوح على قسيمة الدفع.
لكن حجم الخصم الفعلي يترك مجالاً كبيراً للمناورة. فعند اللجوء إلى منصات مقارنة الأسعار، يتضح في كثير من الأحيان أن سعر المنتج قد ارتفع بشكل ملحوظ قبل تطبيق الخصم عليه. فقد وجدت جمعية حماية المستهلك البريطانية (Which?) في عام 2023، ضمن عينة من 227 سلعة، أن 92% منها عُرضت بسعر أرخص في الفترة التي سبقت وتلت الجمعة الأسود بستة أشهر مقارنة بسعرها في هذا اليوم.
أما بالنسبة للتجار النمساويين، فإن الأمر منظم بشكل أكثر دقة: يجب أن تستند التخفيضات إلى أدنى سعر للمنتج خلال الثلاثين يوماً الماضية، ولكن هناك استثناءات، مثل التخفيضات الممنوحة عبر بطاقات العملاء وبرامج الولاء. وفي المقابل، لا يتوجب تحديد “أدنى سعر سابق” في مقارنات الأسعار إذا كان العرض يقارَن فقط بسعر التجزئة الموصى به غير الملزم (UVP) من قبل الشركة المصنعة. وقد اشتكى Will هذا الأسبوع من أن قانون تسعير المنتجات معقد للغاية حتى بالنسبة للتجار.
متوسط التوفير الذي تم رصده
أجرت منصة مقارنة الأسعار Geizhals.at دراسة دقيقة لأيام العروض من العام الماضي. قارنت المنصة أسعار 10,000 منتج من الأكثر طلباً على موقعها خلال فترة “الأسبوع الأسود” نهاية نوفمبر 2024 بأسعارها في نهاية أكتوبر 2024. ووفقاً للمنصة، سُجلت أقوى الخصومات بمتوسط يتراوح بين 20% و30% في ألعاب أجهزة الألعاب المختلفة (الكونسولز). أما الحواسيب المحمولة وأجهزة التلفزيون والشاشات، فقد كانت أرخص بنسبة عشرة بالمائة تقريباً.
وفي ألمانيا، توصل موقع المقارنات Idealo في دراسة مماثلة شملت 10,000 منتج في العام الماضي إلى متوسط توفير بلغ سبعة بالمائة. وكانت 73% من المنتجات أرخص ثمناً في فترة الجمعة الأسود مقارنة بالشهر الذي سبقه.
تزايد الشكوك في النمسا
تشير استطلاعات الرأي إلى أن “الجمعة الأسود” يُنظر إليه بعين أقل انتقاداً في ألمانيا مقارنة بالنمسا. فقد أظهرت استطلاعات أجرتها مراكز Intregral وSinus وYouGov أن نصف المستجيبين النمساويين فقط ينظرون بإيجابية إلى أيام التخفيضات، بينما تتجاوز النسبة 60% في ألمانيا. كما أن عدم الثقة في “وعود الخصومات” أقل بكثير في ألمانيا (38%) مقارنة بالنمسا (47%).
يبدو أن النمساويين استمعوا إلى تحذيرات جمعيات حماية المستهلك، التي تحذر منذ سنوات من القرارات الشرائية المتسرعة. فعلى سبيل المثال، توصي غرفة العمل النمساوية (AK) هذا العام مجدداً بعدم الانصياع لضغوط الشراء، بل بأخذ الوقت الكافي للبحث عن تطور سعر المنتج على المنصات المتخصصة. ويتم التحذير صراحة من المتاجر الاحتيالية (Fake-Shops). وحتى مع المنصات الموثوقة، يجب الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة مثل تكاليف الشحن وحقوق الانسحاب من الصفقة.



