النمسا تواصل التمسك بالتنوع رغم التوجهات المناهضة له في الولايات المتحدة

في الوقت الذي تواجه فيه الجامعات والشركات في الولايات المتحدة ضغوطًا متزايدة ضد سياسات الحصص لصالح النساء وبرامج الدمج للمجموعات المهمشة، يبدو أن العديد من المؤسسات في النمسا مصممة على التمسك بسياسات التنوع، وفقًا لاستطلاع صغير للرأي.

وبحسب وكالة الأنباء النمساوية (APA)، يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى تقويض الجهود المبذولة لتحقيق المساواة في سوق العمل، معتبرًا أن التدابير التي تهدف لضمان الفرص المتكافئة للجميع شكلٌ من أشكال “التمييز غير القانوني”، وأصدر مرسومًا يمنع الوكالات الفيدرالية الأمريكية من تنفيذ برامج التنوع والمساواة والإدماج (DEI، وهي اختصار لـ Diversity, Equity, and Inclusion).

وبالرغم من أن هذا الحظر لا يشمل مباشرةً الشركات الخاصة، إلا أن كبرى الشركات الأمريكية مثل Meta وMcDonald’s وDisney بدأت في تقليص برامجها المتعلقة بالإدماج والمساواة، خوفًا من فقدان العقود الحكومية.

النمسا: التنوع ضرورة اقتصادية وليس مجرد توجه أخلاقي

على النقيض من ذلك، لا تزال النمسا ترى في التنوع ضرورة اقتصادية بجانب كونه قضية أخلاقية، وفقًا لما ذكرته باميلا راث، الخبيرة في قضايا التنوع.

توضح راث، التي تمتلك خبرة لأكثر من 15 عامًا في مجال التوظيف والمساواة، أن “نقص الكفاءات في سوق العمل هو المحرك الأساسي لمثل هذه السياسات في النمسا”، وأضافت أن التطور الديموغرافي يقلل تدريجيًا من أعداد الرجال المؤهلين من أصول نمساوية، مما يدفع الشركات للاعتماد بشكل أكبر على القوى العاملة النسائية والأشخاص من أصول مهاجرة للحفاظ على قدرتها التنافسية.

تؤكد ألكسيا بومباريس، المسؤولة عن برامج التنوع في معهد Institute of Science and Technology Austria (ISTA)، أن الهياكل التمييزية داخل المؤسسات تمنع أحيانًا المواهب المتميزة من اختيار النمسا كمكان للعمل والإبداع، مما يُشكل “خسارة كبيرة للبحث العلمي والابتكار في البلاد”.

الشركات الكبرى: لا تأثير مباشر للاتجاه الأمريكي

وفقًا لما صرح به غونتر رايس، الرئيس التنفيذي لمجموعة Collini الصناعية، التي تدير 15 موقعًا حول العالم، فإن الشركة لا تتوقع تأثيرًا مباشرًا من التوجهات الأمريكية المناهضة للتنوع، لكنها تراقب التطورات هناك “بقلق”. وأكد رايس أن الشركة ستواصل دعم سياسات المساواة والتنوع والإدماج.

أما كارين بيرغر، من مجموعة Erste Bank، فترى أن التزام البنك بالتنوع ليس جديدًا، مشيرةً إلى أن وثيقة تأسيس البنك في عام 1819 نصّت صراحةً على عدم التمييز بين العملاء على أساس الجنس أو العمر أو العرق أو الجنسية.

التنوع يعزز الأداء الاقتصادي

أظهرت دراسة أجرتها شركة الاستشارات الاستراتيجية EY-Parthenon عام 2023 أن الشركات النمساوية التي تقود جهود التنوع تتمتع بمعدلات ابتكار أعلى ونجاح مالي أكبر مقارنةً بتلك التي لا تركز على هذا الجانب.

وتتفق لارا بيكو، من Siemens Austria، مع هذه النتائج، حيث تؤكد أن الفرق المتنوعة تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز الابتكار والنمو داخل الشركة. كما أشار غونتر رايس من Collini إلى أن الفرق المتنوعة تعمل بشكل أكثر إنتاجية وإبداعًا، ما يجعل الاستثمار في التنوع خيارًا مربحًا على المدى الطويل.

من الشعارات إلى الواقع: الشركات تواجه ضغوطًا من الموظفين الشباب

في الماضي، كان الترويج للتنوع داخل الشركات مجرد “خدعة تسويقية”، وفقًا لما ذكرته الخبيرة باميلا راث، لكنه أصبح اليوم سياسة جادة ذات تأثير حقيقي على سوق العمل.

وذكرت راث أن الشركات التي لا تطبق سياسات التنوع بجدية ستجد صعوبة في استقطاب المواهب الشابة، خاصة من جيل “Z”، الذي يفضل بيئة عمل أكثر تنوعًا وشمولية.

كما بدأت العديد من المؤسسات في مواجهة التحيزات اللاواعية (Implicit Bias) التي تؤدي إلى تمييز غير مقصود داخل بيئة العمل، وذلك من خلال تقديم تدريبات متخصصة، كما هو الحال في معهد ISTA في كلوسترنويبورغ، حيث يُطلب من الموظفين الجدد التوقيع على ميثاق داخلي للتنوع كجزء من عقد العمل.

النساء في سوق العمل: التركيز الأساسي لبرامج التنوع

تعد المساواة بين الجنسين أحد المحاور الأساسية لجهود التنوع في النمسا، حيث تشكل النساء 50% من السكان، لكنهن ما زلن ممثَّلات بشكل ضعيف في المناصب القيادية والوظائف ذات الأجور المرتفعة.

لذلك، وضعت Siemens هدفًا يتمثل في زيادة نسبة النساء في المناصب القيادية إلى 30% بحلول عام 2030، إلى جانب التوسع في تعيين وترقية النساء داخل الشركة.

مجتمع LGBTQIA+: بين التشريعات والواقع اليومي

منذ عام 2004، يحمي قانون المساواة في النمسا الأفراد المثليين والمتحولين جنسيًا من التمييز في العمل، لكن الخبيرة باميلا راث تؤكد أن الواقع مختلف، حيث لا يزال بعض الموظفين مضطرين إلى إخفاء هويتهم الحقيقية خوفًا من ردود الفعل السلبية.

ولتوفير بيئة آمنة، أنشأت بعض الشركات شبكات دعم داخلية لموظفيها من مجتمع LGBTQIA+، مثل مجموعة REWE، التي تضم حاليًا 130 عضوًا في شبكتها “different.together”.

المهاجرون: جزء أساسي من القوى العاملة

تلعب العمالة المهاجرة دورًا أساسيًا في سوق العمل النمساوي، لا سيما في قطاعات الضيافة والصناعة. وتستخدم الشركات استراتيجيات توظيف موجهة نحو مجتمعات المهاجرين، مثل نظام “الأصدقاء يجلبون الأصدقاء”، الذي يسهّل اندماج الموظفين الجدد ويقلل من حواجز اللغة.

كما حصلت شركة Collini على جائزة التنوع “SPEKTRUM 2023” من اتحاد الصناعات النمساوية تقديرًا لجهودها في توظيف ودعم العمالة ذات الخلفيات المهاجرة.

ذوو الإعاقة: تحديات في التوظيف رغم القوانين

رغم أن 18.5% من سكان النمسا يعانون من إعاقات، إلا أن فقط 1 من كل 7 أشخاص منهم يتم توظيفهم، وفقًا للخبيرة باميلا راث، التي وصفت ذلك بأنه “إهدار للموارد البشرية”.

وتُلزم القوانين النمساوية الشركات بتوظيف شخص ذي إعاقة مقابل كل 25 موظفًا، لكن العديد من المؤسسات تفضل دفع الغرامات المالية بدلًا من الامتثال لهذا الشرط.

إحدى الاستثناءات البارزة هي جامعة غراتس، التي تعتبر المؤسسة الأكاديمية الوحيدة في النمسا التي توظف العدد المطلوب من ذوي الإعاقة، وبالتالي لا تدفع أي غرامات، وفقًا لما أكدته ميرييل فان بوبل، نائبة رئيس الجامعة.

التحديات السياسية وتأثيرها المحتمل على سياسات التنوع

رغم الالتزام الحالي بسياسات التنوع، فإن مستقبلها في النمسا قد يتأثر بالتغيرات السياسية، وفقًا لما صرحت به ميرييل فان بوبل من جامعة غراتس.

وأضافت أن الجامعات تتمتع حاليًا بالاستقلالية في تنفيذ سياسات التنوع، لكن إذا قررت الحكومة تغيير هذه القوانين، فقد يتعين إعادة النظر في هذه البرامج في المفاوضات المستقبلية بين الجامعات والسلطات الفيدرالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى