خطاب التخدير وعقلية التفرد.. السوريون في النمسا بين العاطفة والتقوقع

مقال لـ أحمد مرد

شهدت الجالية السورية في النمسا، على مدى العقود الماضية، تطوراتٍ متباينةً اتخذت طابعًا متشظّيًا وغير منتظم، ولم تشهد لحظة جامعة سواء في تأييد الثورة أو في الانحياز للنظام السوري. فقد فشلت الأحداث الكبرى في سوريا، بما فيها الثورة، في أن تصنع رابطًا جمعيًّا ثابتًا بين السوريين في المهجر، لا في الموقف ولا في المشروع. بل بقيت المواقف موزعة ومتناقضة في الغالب، محكومة بمصالح فردية أو طائفية أو أيديولوجية، وسط حالة من الانكفاء على الذوات، والعجز عن خلق جسم وطني متماسك.

م. أحمد مراد
اعلامي عربي
مقيم في فيينا

فشل الثورة في توحيد السوريين

لم تنجح الثورة السورية، بكل ما حملته من زخم شعبي وشعارات كبرى، في أن توحّد السوريين المقيمين في النمسا. فكان الانقسام عنوانًا دائمًا، حيث توزع الأفراد إلى معسكرات صغيرة، لا رابط بينها سوى انفعالات وقتية أو مصالح مصلحية. بقي كل طرف يتبنى سرديته الخاصة، ويشهرها في وجه الآخر، دون استعداد فعلي للحوار أو تجاوز الخلافات الجوهرية.

التشرذم والانكفاء على الجماعات الفرعية

غلبت على السوريين في النمسا سمة الانكفاء على المكونات الصغرى، الطائفية أو المناطقية أو الفكرية. إذ يسعى كل فريق إلى تكريس ذاته كمرجعية، رافضًا الانضواء في مشروع مشترك، ما أدى إلى خلق حالة عامة من التشرذم. هذا التفكك انعكس في النشاط المدني والاجتماعي، حيث ظهرت مبادرات كثيرة لكنها سرعان ما خمدت، لغياب التنسيق والنية الصادقة للعمل الجماعي.

الحشد الغريزي لا القناعة بالمبدأ

يلتقي كثير من السوريين في المهجر على ردود الفعل أكثر من المبادئ، فيمارسون الحشد والانفعال كرد فعل على ظلم أو حادثة، ولكن دون أن يكون لديهم التزام مبدئي بالقضايا الجوهرية. فطالما أن الأمر لا يمس مصالحهم الشخصية، فإنهم يفضلون الصمت أو الحياد. أما حين تتقاطع القضية مع منفعة فردية، فإن الحماس يتصاعد، ولكن سرعان ما يخبو حين تزول المصلحة.

فشل العمل الجماعي وتفرد الأفراد بالمشهد

ورغم وجود طاقات وكفاءات بين السوريين في النمسا، إلا أن العمل الجماعي ظل حلمًا مؤجلاً. فكل مجموعة تنادي بأهدافها الخاصة، وتحاول فرض رؤيتها على الساحة، مع سعي البعض إلى التفرد بالمشهد الإعلامي أو المدني. هذه النزعة الفردية انعكست سلبًا على فعالية السوريين في تشكيل قوة ضغط حقيقية، أو في تمثيل أنفسهم أمام المؤسسات النمساوية.

نجاحات فردية لا جماعية

شهدت السنوات الماضية بروز عدد من السوريين في مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد والتعليم، وقد حققوا إنجازات لافتة على المستوى الشخصي. لكن هذه النجاحات بقيت معزولة، ولم تتحول إلى قاعدة جماعية. بل يخشى البعض أن تفتح أبواب العمل الجماعي لأنها قد تهدد تميزهم أو تقلل من سيطرتهم على مساحات معينة.

الولاء للوطن ولكن بشروط ذاتية

ثمة كثيرون من أبناء الجالية السورية في النمسا يحبون وطنهم، ويحملون حسًا وطنيًا صادقًا، إلا أنهم يرفضون المساومة على قناعاتهم الخاصة، حتى وإن كانت غير قابلة للنقاش. وهذا ما يعطل أحيانًا الحوار ويمنع الوصول إلى رؤية مشتركة. فلكل فرد مقاربته الخاصة للوطن والانتماء والهوية، ولا يقبل كثيرون بتقاطع هذه الرؤى أو تطويرها.

الجالية القديمة وصمتها المتلاشي

أما الجالية السورية القديمة، التي قدمت إلى النمسا قبل الثمانينيات، فهي اليوم شبه مغيبة عن التأثير، ومحصورة في جمعيات ومنتديات محدودة التأثير، تتلاشى شيئًا فشيئًا أمام اجتياح السوشال ميديا. إذ لم تستطع هذه الجالية أن تواكب المتغيرات أو أن تفتح أبوابها للأجيال الجديدة، ما جعلها تنغلق على ذاتها.

التحولات بعد سقوط الأسد ومفارقة الشرع

بعد سقوط النظام السوري، وهروب الأسد، انقسم السوريون في المواقف مجددًا. فمعظم من كانوا ضد التيارات الإسلامية عادوا لاحقًا إلى تمجيد النظام، الممثل برئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، واحتفلوا بظهوره وكأنه من أسقط النظام، متجاهلين المعطيات الإقليمية والدولية، بل وتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي أكد أكثر من مرة أن تل أبيب لعبت دورًا في سقوط الأسد ووصول الشرع إلى دمشق. هذا التناقض يعكس حجم الخلل في قراءة المشهد السياسي، والخضوع لرغبات عاطفية لا لرؤية عقلانية.

رفض النقد وتبجيل الخطاب التخديري

يجتهد كثير من أبناء الجالية في محاربة كل من يوجه نقدًا سلوكيًا أو فكريًا لهم، ويرفضون كشف مواطن الخلل في أدائهم. في المقابل، يحتفون بكل من يطريهم، أو يقدم لهم صورة مثالية مزيفة عن أنفسهم، ويعيشون في وهم البطولة الخارقة. هذا الهروب من المواجهة مع الذات، يفاقم من الإشكاليات ولا يساهم في تجاوزها.

النخب الحقيقية مغلقة أو منسحبة

تعاني النخبة السورية الحقيقية في النمسا من التهميش أو الإقصاء. فالكثير من المثقفين والأكاديميين فضلوا الانزواء أو الابتعاد عن المشهد، بسبب غياب التقدير لأفكارهم أو رفض التعامل معهم بندية. إذ تُقابل طروحاتهم التنموية أو النقدية بالتشكيك أو الاستهزاء، ما حرم الجالية من صوت عقلاني قادر على المساهمة في بناء صورة مستقلة ومحترمة عن السوريين أمام المجتمع النمساوي.

المرأة السورية: حضور فردي لا جماعي

رغم وجود نساء سوريات ناجحات في ميادين متعددة في النمسا، فإن الحضور النسائي في العمل العام ما زال ضعيفًا. فتمثيل المرأة ما زال محصورًا غالبًا في ملفات محددة مثل “حقوق المرأة” بصيغها النمطية، دون تجاوزها نحو قضايا أعمق. هذا الضعف يعود جزئيًا إلى البنية الذكورية المسيطرة، وإلى غياب بيئة حاضنة للتمكين النسائي الحقيقي.

سطوة رجال الدين والخطاب الديماغوجي

في المقابل، يتمتع رجال الدين بسطوة كبيرة على عقل الجالية، إذ يعيدون إنتاج خطاب ديماغوجي يقسم العالم إلى أبيض وأسود. هذا الخطاب يُغلق باب التفكير النقدي، ويكرّس الأدلجة والانقياد، ما يمنع بناء خطاب مدني جامع قادر على ملامسة تعقيدات الواقع ومواجهة تحدياته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى