“رجل بحجم طنجرة”.. موائد الكلام في فيينا والثقافة المعلبة
مقال لـ أحمد مراد
لماذا المشهد الثقافي في النمسا، وتحديداً في العاصمة فيينا، في السنوات الأخيرة شهد تحوّلاً لافتاً، ليس في المضمون، بل في طريقة اجتذاب الجمهور والمشاركين. إذ باتت الندوات والمنتديات الثقافية والسياسية تقاس لا بما يُقال فيها، بل بما يُقدَّم على موائدها، وكلما ازدادت الأطباق تنوعاً وتكدّست الصحون وفاضت الموائد، ازداد معها الحضور، وارتفعت حرارة النقاش – أو هكذا يبدو من بعيد، وفي المقابل، كلما خلا اللقاء من بوفيه أو “عزومة”، خلا المكان من الحضور.

اعلامي عربي
مقيم في فيينا
ثقافة مشروطة بالملعقة
لا يحتاج المتابع للمشهد الثقافي في فيينا إلى عدسة مكبّرة ليلاحظ العلاقة الطردية بين عدد الحضور وعدد أطباق الطعام، فكلما اغتنت الطاولة، اغتنت معها القاعة، وكلما تواضعت المائدة، تقلّص معها الحضور وتحوّلت الندوة إلى حديث ذاتي بين المنظم والميكروفون.
وبات السؤال مشروعاً في ظل هذه العلاقة الغريبة: هل أصبح الرجل الثقافي في فيينا بحجم “طنجرة”؟ أي كلما زادت دهون المائدة، زاد حجم الحضور؟ وهل بات معيار النجاح لندوة أو مجلس ثقافي هو “عدد قطع اللحم” المقدمة لا عدد الأفكار المطروحة؟
موائد رمضان… والأضواء الموسمية
تبلغ الظاهرة ذروتها في شهر رمضان، حيث يتنافس المتصدرون في المشهد الثقافي والسياسي على تنظيم موائد الإفطار، لا بهدف الحوار، بل بحثاً عن “اللقطة” و”الحشد”، إذ يتزايد عدد الدعوات في هذا الشهر، ولا تخلو فعالية من بوفيه “خيري”، يلتقط فيه المصورون الصور، ثم ينتهي كل شيء عند غروب الأطباق، تاركاً وراءه ندوة بلا أثر ونقاشاً بلا صدى وكأن شيئاً لم يحدث.
لقد باتت بعض هذه المجالس تشبه المطاعم المؤقتة، حيث تُقدَّم الثقافة كطبق جانبي لا أكثر، المهم أن تكون الطاولة عامرة، والمقاعد ممتلئة، حتى وإن كانت العقول فارغة من أي مضمون أو حوار حقيقي أو طرح لما يواجهه المهاجرون في النمسا.
غياب العمق… وحضور المعدة
المفارقة أن العديد من هذه الندوات تفتقر إلى أدنى مستويات الطرح الفكري أو المعلوماتي، فهي حوارات مكررة، خطابات شعاراتية، ومداخلات واستعراضات صوتية بلا أساس، لكن لا بأس، ما دام طبق “المحاشي والمنسف والحلويات” حاضرًا، وأهم شيئ القهوة العربية الأصيلة.
هل نحن أمام جمهور لا يحضر إلا بقدر ما تملأ معدته؟ أم أمام منظمين لا يرون في الثقافة سوى ديكوراً لمائدة طعام؟ وهل أصبح معيار النجاح هو عدد صور الصحون لا عدد الأسئلة النقدية؟
ثقافة الاستهلاك بدل استهلاك الثقافة
هذا المشهد يعكس انزياحاً خطيراً في طبيعة الفعل الثقافي، فبدلاً من أن يكون الحوار أولوية، والاختلاف الفكري محرّكاً، أصبح كل ذلك ملحقاً ببند التغذية، بل إن بعض اللقاءات باتت تُنظَّم في فنادق ومطاعم، لا لشيء سوى لإبهار الحضور، والتقاط الأضواء المؤقتة، وينتهي كل شيء بانتهاء الفعالية واغلاق القاعة، ويختفي أثرها مع طلوع اليوم التالي، كأن شيئاً لم يكن، سوى صورٍ على فيسبوك، وفضلات طعام في الحاوية الخلفية.
هل من أفق آخر؟
ربما آن الأوان لإعادة التفكير في هذا المشهد، الثقافة ليست ملحقاً للبوفيه، والسياسة ليست مشروطة بطبق خروف، وإذا كان بعض المنظمين قد فقدوا البوصلة، فلا بد من جمهور يعيد ترتيب الأولويات، ويقاطع الموائد الفارغة فكرياً ولو كانت عامرة طعاماً.
في النهاية، من يربط وزنه الثقافي بطنجرة، فلا شك أن “ميزانه” الفكري هو بما يستطيع حمله في طبقه.



