على الجانب الآخر من فيينا.. الجمعيات العربية غائبة وتتبدد
مقال رأي لـ أحمد مراد
فيينا – INFOGRAT:
في قلب العاصمة النمساوية فيينا، شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في عدد الجمعيات التي تنتمي إلى الجاليات العربية، بما فيها جمعيات لأطباء، ومحامين، ومهندسين، إضافة إلى جمعيات ثقافية واجتماعية وخيرية، وعلى الرغم من أنّ هذا الحراك الجمعياتي يبدو ظاهريًا علامةً صحية على التفاعل المدني والتنوع، إلا أن تدقيقًا موضوعيًا في بنيتها ووظيفتها يفضي إلى قراءة نقدية تحتاج إلى طرح تساؤلات جادة حول الفاعلية والتأثير، بل والجدوى أحيانًا.

اعلامي عربي
مقيم في فيينا
الجمعيات بين منطق “المضافة” و”الخيرية”
يمكن القول إن غالبية الجمعيات تتأرجح بين منطقين: منطق “المضافة” العربية، حيث تتحول الجمعية إلى مساحة تكرّس العلاقات الاجتماعية التقليدية، ومنطق “الجمعية الخيرية”، حيث تقتصر الأنشطة على تقديم مساعدات أو تنظيم فعاليات موسمية، ورغم أن هذين المحورين ليسا سلبيين بحد ذاتهما، إلا أن الاكتفاء بهما دون تطوير في بنية الجمعية وأهدافها يضعف من حضورها وتأثيرها المجتمعي، ويفرغها من دورها المفترض في بناء حوار معرفي، وتنمية قدرات الأفراد، وصياغة خطاب يليق بجاليات مهاجرة تعيش في بيئة ديمقراطية تعددية.
غياب النخب وإقصاء أصحاب الكاريزما
الملاحَظ بشكل لافت هو افتقار هذه الجمعيات إلى النخب الفكرية والمهنية، وغياب الشخصيات الكاريزمية القادرة على إدارة الحراك المدني برؤية استراتيجية، بل وتظهر أحيانًا نزعة متعمدة أو غير معلنة لإقصاء أصحاب الرأي والمبادرات الفردية الخلاقة، وكأن الجمعية مساحة مقفلة على جماعة محددة تنسج علاقاتها بناء على القرابة أو الولاء الشخصي أو الأيديولوجي العصبوي، وهذا الإقصاء لا يضر فقط بمن يتم تهميشهم، بل يضر الجمعية نفسها عبر إفراغها من الطاقات الحقيقية التي يمكن أن تنهض بها.
الهيمنة الأيديولوجية: دينية، سياسية، ومناطقية
تعاني جمعيات عديدة من خضوعها لأطر أيديولوجية ضيقة، سواء كانت دينية أو سياسية أو مناطقية، حيث يتم ترجيح هذه الانتماءات على حساب العمل المؤسساتي المهني، ولا يقتصر هذا على المستوى الداخلي للجمعية، بل يمتد ليؤثر على آليات اختيار الأعضاء وإدارة الفعاليات وحتى صياغة الخطاب العام، مما يؤدي إلى تفتيت الطاقات بدلاً من توحيدها، واستقطاب جمهور منسجم أيديولوجيًا بدلاً من بناء فضاء مشترك يتسع للاختلاف والتنوع.
انعكاسات التشرذم السياسي العربي
إن الانقسامات السياسية العميقة التي تشهدها دول عربية عديدة تجد طريقها إلى الجاليات في فيينا، حيث تنعكس على شكل انقسام في الولاءات والانتماءات داخل الجمعيات، وحتى بين الأفراد، وما يفترض أن يكون حراكًا مدنيًا يهدف إلى تمثيل الجالية واحتياجاتها أمام المؤسسات النمساوية، يتحول في بعض الأحيان إلى ساحة لإعادة إنتاج الخلافات والصراعات التي فرت منها الجاليات أصلًا، وهكذا، تُستهلك الطاقات في الخلاف بدل البناء، وفي التنازع بدل التمثيل.
تصدّر المحتوى الشعبوي والتافه أو السطحي للمشهد
تتزامن هذه الإشكاليات مع صعود لافت لمنشئي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، يقدمون محتوى شعبويًا وترويجيًا يخلو من أي عمق علمي أو معرفي أو الخاطئ أحياناً خاصة الاخباري منه. هؤلاء الأفراد، الذين غالبًا ما يفتقرون إلى التخصص أو التجربة الميدانية، يتصدرون المشهد العام بسبب قدرتهم على جذب المتابعين من خلال الترفيه السطحي أو الخطاب العاطفي، مما يعكس خللاً في أولويات المتلقي، وغياب مرجعية ثقافية أو فكرية أو معلوماتية يمكن أن تضبط جودة المحتوى المتداول داخل الجالية.
نحو حلول واقعية وعملية
من دون الوقوع في خطاب التذمر أو جلد الذات، يمكن التفكير في مجموعة من الحلول العملية لتجاوز هذه التحديات، أبرزها:
- إعادة تعريف أدوار الجمعيات: ضرورة انتقال الجمعيات من منطق العلاقات الشخصية إلى منطق العمل المؤسساتي القائم على أهداف واضحة، وخطط مهنية، وتمثيل حقيقي للجالية أمام مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.
- إشراك النخب: تشجيع الكفاءات المهنية والأكاديمية على الانخراط في العمل الجمعياتي، عبر توفير فضاء يضمن حرية الرأي والتعبير، ويكافئ الكفاءة بدل الولاء.
- تحييد الأيديولوجيا: لا بد من ضبط التداخل بين العمل الجمعياتي والانتماءات السياسية أو الدينية، بما يحفظ استقلالية الجمعية ويجعلها أداة جامعة لا أداة فرز واستقطاب.
- التعاون بين الجمعيات: تشجيع الشراكات بين الجمعيات المختلفة لتقوية الموقف التفاوضي أمام المؤسسات الرسمية، وتبادل الخبرات، وتنظيم فعاليات مشتركة تخلق مناخًا وحدويًا وتعدديا في آن.
- تطوير محتوى معرفي بديل: دعم وتشجيع إنتاج محتوى علمي وثقافي رصين، وتوفير منصات بديلة لمنشئي محتوى من ذوي الكفاءة، توازي شعبية المحتوى الترفيهي من دون الوقوع في سطحية الطرح.
إن المطلوب اليوم ليس انتقاد الجمعيات لمجرد النقد، بل إعادة طرح الأسئلة الضرورية حول الدور، والأثر، والاستمرارية، في ظل واقع معقد يعاني من التشتت والسطحية، لكنه لا يخلو من الإمكانات أيضًا. الإمكانات التي تنتظر فقط من يوظفها بذكاء، وشجاعة، واستقلالية فكر.



