عندما يأكل القط اللسان.. لماذا امتنعت النمسا عن رفع علم إسرائيل بعد الهجوم الإيراني؟

مقال لـ أحمد مراد

لماذا لم ترفع النمسا العلم الإسرائيلي فوق مبنى المستشارية ووزارة الخارجية بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل؟

طرحت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران سؤالاً مثيراً ومحرجاً في الساحة السياسية النمساوية: لماذا لم ترفع النمسا العلم الإسرائيلي على مبنى المستشارية ووزارة الخارجية كما اعتادت أن تفعل في السنوات الأخيرة عقب كل هجوم على إسرائيل؟ فقد وقع الهجوم، وحددت هوية الفاعل بوضوح—إيران، وتحديداً ميليشيا الحرس الثوري الإيراني، المصنفة على قوائم الإرهاب في النمسا والاتحاد الأوروبي، ومع ذلك بقيت أسطح المباني الحكومية النمساوية خالية من العلم الإسرائيلي، بعكس ما حدث مراراً مع هجمات نفذتها حركات فلسطينية أو حزب الله.

م. أحمد مراد
اعلامي عربي
مقيم في فيينا

في السنوات الخمس الماضية، تبنت النمسا موقفاً معلناً لا لبس فيه في كل مرة تتعرض فيها إسرائيل لهجوم، إذ كانت تسارع إلى رفع العلم الإسرائيلي فوق مبنى المستشارية ووزارة الخارجية، كما حدث عند اندلاع الحروب مع حماس في غزة، أو حين أطلق حزب الله صواريخ على شمال إسرائيل. وكانت هذه الخطوة تُسوَّق دائماً في فيينا على أنها موقف تضامني لا يخضع للمجاملات الدبلوماسية، ويعبّر عن التزام أخلاقي تجاه إسرائيل، كما تقول الحكومة النمساوية، وهو ما يتسق مع خطابها التقليدي في محاربة معاداة السامية والدفاع عن حق إسرائيل في الأمن.

لكن ما الذي تغيّر في الحرب الأخيرة، حين شنت إيران هجوماً غير مسبوق بالصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل، وخلّف دماراً واسعاً، ووضع المنطقة على حافة مواجهة إقليمية شاملة؟ لماذا امتنعت الحكومة النمساوية، التي تقودها قوى يمينية أو يمينية وسط منذ سنوات، عن اتخاذ موقف رمزي واضح عبر رفع العلم الإسرائيلي، رغم أن الهجوم جاء من دولة تصنفها فيينا على أنها تمثل تهديداً أمنياً مباشراً؟ بل أكثر من ذلك، ألم يشر التقرير الأمني السنوي للنمسا لعام 2024 إلى أن إيران تواصل تطوير برنامجها النووي، وتزيد من عملياتها الاستخبارية في أوروبا، وعلى رأسها النمسا، رغم اللقاءات الدبلوماسية والاجتماعات التي سبقت الحرب الأخيرة؟

هذا الغياب الواضح لأي فعل رمزي، ولو بسيط، يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: هل تملك إيران أدوات ضغط على النمسا تمنعها من تبني موقف سياسي أو رمزي واضح إلى جانب إسرائيل؟ وهل العلاقات السياسية والدبلوماسية العميقة بين طهران وفيينا تلعب دوراً خفياً في صياغة هذا “الصمت الرسمي”؟ من المعروف أن لإيران واحدة من أضخم السفارات في قلب العاصمة النمساوية، فيينا، وتشكل هذه السفارة مركزاً نشطاً للدبلوماسية الإيرانية في أوروبا، ليس فقط في التواصل السياسي، بل أيضاً في المسائل الاقتصادية والثقافية وحتى الأمنية.

كما أثبت تاريخ فيينا نفسه أرضًا نشطة للدبلوماسية السرية والطابع المزدوج للعلاقات، فإن دعم إيران للشخصيات السياسية النمساوية هو أمر مؤكد. على سبيل المثال، كان لاجئ كردي بارز، عبد الرحمن قاسملو، قد اختُطف وأُغتيل برصاص إيرانيين في تموز 1989 أثناء محادثات عقدت في فيينا بدعم من النظام الإيراني، ولم يُحاكم منفّذو الجريمة قط في النمسا، رغم اصدار الحكومة آنذاك مذكرات توقيف بحقهم.

هذا الحدث والاغتيالات الأخرى — ترافقت مع محاولات لتجنيد نشطاء وممولين سياسيين داخل أوساط النمساويين النافذين — يعززان فرضية وجود نفوذ ايراني قوي في العاصمة. علاوة على ذلك، تعرّضت الصحف النمساوية الكبرى لضغوطات دعاية عبر إعلانات حكومية أو حملات علاقات عامة مدفوعة، مما يعزز احتمالية تأثير همسٍ إيراني خلف الكواليس، قد يسعى إلى تليين الموقف الرسمي لدى فيينا تجاه طهران.

رغم إعلان النمسا عن حيادها كسياسة خارجية رسمية — بصفتها دولة محايدة منذ العام 1955 — يتبدّى أن ذلك الحياد ليس مطلقًا، بل يُنتهك حين تريد السياسة ذلك. فرعاية مصالحها الاقتصادية أو المحافظة على علاقات متينة مع إيران أحيانًا، تصمت فيينا عن انتهاكات صارخة مثل هجوم إيران على إسرائيل. في المقابل، تنبري الحكومات النمساوية سريعًا لرفع العلم الإسرائيلي عند هجمات أقل حجمًا تنفذها حركات فلسطينية، رغم أن هذه الأخيرة لا تملك سوى قوة ضئيلة مقارنة بإيران، يبدو هنا أن حياد النمسا يصبح اختيارًا تُفعلّه أو تُلغيه بحسب الجهة الفاعلة ودرجة تأثيرها الاستراتيجي أو الأمني على البلاد.

يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا لا تُظهر النمسا صرامتها إلا حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين؟ من الواضح أن موقفها يتشدد كلما كان الفاعل حركة فلسطينية صغيرة لا تملك سوى بعض الصواريخ أو أدوات بدائية، بينما تصمت عندما يتعلق الأمر بإيران، الدولة التي تملك ترسانة متطورة من الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة، وتظهر قدرتها العسكرية بوضوح على شاشات العالم. هل يعود هذا إلى الخوف من رد الفعل الإيراني، أم إلى حرص النمسا على مصالح اقتصادية أو أمنية معينة مع طهران؟ وماذا عن “القيم الأخلاقية” التي تتحصن بها الحكومة النمساوية حين تتعلق القضية بإسرائيل؟

تبدو الصورة قاتمة حين يُقارن رد فعل النمسا الرسمي على الهجوم الإيراني بردود أفعالها السابقة على هجمات أقل حجماً وأكثر تواضعاً من جهة حركات فلسطينية. هل أصبح رفع العلم الإسرائيلي مرتبطاً فقط بنوع الفاعل؟ وهل “رمزية” التضامن مع إسرائيل تُجزَّأ حسب هوية العدو؟

يبقى السؤال مفتوحاً، بل ويزداد حدة: ما هو الثمن، أو ما هي الورقة التي تملكها إيران وتمنع النمسا من اتخاذ موقف رمزي صريح لصالح إسرائيل؟ ولماذا لم تُقدم النمسا على تلك الخطوة التي طالما تغنت بها أمام العالم وهي رفع علم إسرائيل تضامناً مع “دولة تتعرض للهجوم”؟

في ظل هذا الصمت، لا يُلام من يتهم النمسا بازدواجية المعايير، ولا يُلام من يرى أن موقفها لم يعد نابعاً من مبادئ، بل من مصالح وخشية لربما من نفوذ إيران المتزايد داخل الصالون السياسي والأمني، ولو على حساب أصدقائها التقليديين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى