فيينا على مفترق طرق مناخي: اختبار جاد لمكانتها كـ”مدينة نموذجية للمناخ”

اتخذت فيينا، التي وصفت نفسها بـ “المدينة النموذجية للمناخ”، خطوات جديدة وجريئة نحو تحقيق حيادها الكربوني بحلول عام 2040، حيث أقرّت أول قانون من نوعه على مستوى الولايات النمساوية، وذلك في إطار جهودها للحد من الانبعاثات، لا سيما في قطاعي النقل والمباني، غير أن الانتخابات البلدية المقبلة في 27 نيسان/أبريل تمثل اختباراً جدياً لهذه الطموحات التي تروج لها الحكومة الحالية المكوّنة من حزبي SPÖ وNEOS.

وبحسب وكالة الأنباء النمساوية (APA)، كُشف خلال عطلة نهاية الأسبوع عن نية بلدية فيينا تهدئة حركة المرور في وسط المدينة باستخدام نظام إدارة دخول آلي، وأُشير إلى أن هذه الخطوة لا ترتبط بالحملة الانتخابية الجارية، ووفقاً لما أفاد به مكتب الابتكار والتخطيط الحضري والتنقل لـ ORF.at، فإن المدينة تستثمر في الوقت الراهن ثلاثة أضعاف ما تنفقه على بناء الطرق لصالح وسائل النقل العام (Öffentlicher Verkehr – ÖV). وأضاف المكتب: “نحن في خضم عملية تحوّل كبرى نحو مدينة قادرة على مواجهة تحديات المناخ”.

فعلياً، تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن ثلاثة أرباع تنقلات سكان فيينا تتم سيراً على الأقدام أو باستخدام الدراجات أو وسائل النقل العام. ويعتقد نحو 90% منهم أن الحياة في فيينا ممكنة من دون امتلاك سيارة خاصة. ورغم ذلك، فإن انبعاثات قطاع النقل لا تزال في ارتفاع، وهو ما تعزوه المدينة إلى النمو السكاني والاقتصادي، مع إقرارها بأن “قطاع النقل يمثل تحدياً مركزياً للمناخ”.

من البنية التحتية إلى الانتقادات البيئية

ضمن جهودها في التحوّل المناخي، تعمل فيينا على توسيع شبكة المترو، كما تستثمر أكثر من 130 مليون يورو في البنية التحتية للدراجات خلال الفترة التشريعية الحالية. ومع ذلك، لا تزال بعض المشاريع محل جدل واسع، مثل نفق Lobautunnel المخطط له تحت محمية طبيعية في Lobau. ويرى الخبير في تخطيط النقل Tadez Brezina من جامعة TU Wien أن هذا المشروع يمثل “جنوناً من عصور الوقود الأحفوري”، ويتعارض كلياً مع صورة فيينا كـ “مدينة نموذجية للمناخ”.

يشدد Brezina على ضرورة أن تُترجم السياسات المعلنة إلى قوانين فعلية، مشيراً إلى وجود التزامات قانونية ببناء مواقف للسيارات، في حين لا توجد التزامات مماثلة لتوفير ربط مناسب للمشاة. ويقول: “هذه هي القرارات التي تصنع الفرق”.

التحدي في أطراف المدينة ومفهوم “المدينة ذات الـ 15 دقيقة”

ورغم أن Brezina يقرّ بارتفاع جودة النقل العام في فيينا، إلا أنه يرى أن الأطراف تعاني من ضعف في الخدمة بسبب انخفاض الكثافة السكانية، مشيراً إلى الحاجة لتغيير أساسي في التخطيط العمراني، بحيث تُعزز التنمية الحضرية على امتداد محاور النقل العام بدلاً من الاستمرار في تغطية الأراضي بالخرسانة.

وفيما تروج فيينا لمفهوم “المدينة ذات الـ 15 دقيقة” – وهي فكرة تقوم على تلبية احتياجات السكن والعمل والتسوق والصحة والترفيه ضمن محيط قريب – يرى Brezina أن تحقيق هذا المفهوم سيكون ممكناً فقط في المناطق الكثيفة داخل أو قرب Gürtel، لكنه غير واقعي في مناطق مثل مستوطنات الحدائق الصغيرة في Transdanubien، حيث “لا يمكن بلوغ أي شيء في 15 دقيقة سوى اليأس”.

خريطة تفاعلية أعدها فريق بحثي من Sony Computer Science Laboratories – Rome، بالتعاون مع Centro Ricerche Enrico Fermi وجامعة Sapienza وComplexity Science Hub Vienna، تُظهر الفروقات في الوصول إلى الخدمات الأساسية سيراً على الأقدام أو باستخدام الدراجة في فيينا.

تقييم سلبي للجهود المناخية.. ومقارنة مع باريس

يعطي Brezina لجهود فيينا في حماية المناخ وتكيّفها معه تقييماً “متوسطاً في أحسن الأحوال”، معتبراً أن انخفاض انبعاثات الكربون للفرد في فيينا يعود لطبيعة المدينة وليس إلى إنجازات الحكومة المحلية. ويقارن الوضع مع مدن أخرى مثل باريس، حيث يرى أن فيينا متأخرة بشكل كبير، قائلاً: “ما زال هناك الكثير للقيام به، وبوتيرة أسرع”.

التدفئة والغاز: تحدٍ ثقيل آخر

يمثل قطاع المباني التحدي الثاني الأكبر بعد النقل، حيث تسهم أنظمة التدفئة في ربع الانبعاثات الكربونية بالمدينة. وعلى الرغم من أن السكن في مبانٍ متعددة الوحدات يُنتج بصمة كربونية أقل، فإن هيكل المباني القديمة واعتمادها على الغاز يمثل معضلة خاصة. ووفقاً لإحصائيات Statistik Austria، كان في فيينا أكثر من 400 ألف سخان غاز في عام 2022، إلى جانب عدد مماثل من الشقق المرتبطة بشبكة التدفئة المركزية.

خطة “رؤية فيينا من دون غاز”

طرحت المدينة خطة “Raus aus Gas” (الابتعاد عن الغاز) في عام 2023، وتلاها برنامج تنفيذي في 2024، يتضمن “Wiener Wärmeplan 2040” (خطة التدفئة لفيينا 2040). تحدد هذه الخطة الأماكن التي ستُزود بالتدفئة المركزية وأماكن أخرى ستعتمد على حلول مثل الشبكات المحلية أو أنظمة فردية.

Lukas Kranzl، خبير الطاقة من TU Wien، وصف إعداد الخطة بأنه “خطوة طموحة ومهمة جداً” – خصوصاً أن فيينا أعدّتها دون أي التزام خارجي، خلافاً للمدن الأوروبية الأخرى.

غياب التشريعات.. وتحفظات على الصلاحيات

لكن Kranzl أشار أيضاً إلى غياب “الإجراءات السياسية أو التنظيمية الحاسمة في المباني القائمة”، مشدداً على أن الاستراتيجيات الحالية تفتقر إلى أسس قانونية واضحة. وبينما تلقي حكومة المدينة اللوم على البرلمان الاتحادي الذي أقر في 2023 قانون الطاقة المتجددة دون فرض إلزامية التخلي عن سخانات الغاز، فإن Kranzl يرى أن إصدار قوانين محلية ممكن – ولو كان سياسياً غير مفضل.

مشروعات نموذجية ودعم مالي.. لكن المستقبل غير مضمون

تركّز المدينة حالياً على مشروعات نموذجية وتقديم الاستشارات، وقد منحت في 2024 وحده 71 مليون يورو لدعم التحول الحراري وتجديد أنظمة التدفئة. لكن استمرارية هذا الدعم تبقى مرهونة بالوضع المالي للمدينة في المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى