قيصر سوريا ومحمد الشعار: شهادة الجريمة وعناد الجلاد

لم يكن هناك حتى أملٌ بالنجاة، لم يكن أمامه خيارٌ سوى أن يكون شاهدًا على الجريمة أو أن يصبح واحدًا من ضحاياها. قيصر سوريا، الرجل الذي خاطر بكل شيء ليكشف للعالم الحقيقة، لم يكن مجرد مصوِّر، بل كان شاهدًا على المذبحة اليومية داخل زنازين النظام السوري. يمكنك أن تفهم العذاب الذي مرَّ به حتى دون أن يتكلم، من لغة جسده، من نظراته المرتبكة، من صوته الذي يخونه كلما حاول وصف ما رأى. ليست مجرد صدمة، بل ندبةٌ لا تزول.

وسيم محمد مطاوع
سوري مقيم في فيينا

قيصر سوريا، أو فريد المذهان، المساعدُ الأول، رئيسُ قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق، لم يحمل الكاميرا لتوثيق مشاهد عابرة، بل حملها كمن يحمل جرحًا لا يندمل. الصور التي هربها لم تكن مجرد أدلة قانونية، بل كانت أرواحًا حقيقية، وجوهًا لن تعود، أجسادًا شوَّهها التعذيب، وأخرى ذابت في الظلام. حمل قيصر أمانةً لم يكن مستعدًا لها، لكنه لم يستطع الصمت، فنقل للعالم مشاهد الموت التي لا تُمحى من الذاكرة، مشاهد لا تزال تطارد المجرمين، والهارب بشار اليوم، وغدًا، وعلى مرِّ التاريخ. ستبقى الصور شاهدة، والشهداء خالدين.

على النقيض تمامًا، جاء محمد الشعار، جزار صيدنايا وسفاح طرابلس، ببرود جلادٍ اعتاد على صرخات الضحايا. الرجل الذي قاد وزارة الداخلية في أكثر مراحل القمع وحشيةً، ظهر متماسكًا، بلا ندم، بلا إحساس، كأنه لم يكن جزءًا من آلة القتل. لم يحاول حتى تبرير جرائمه، لم يبحث عن كلمات تخفف من هول ما فعل، ظل متغطرسًا، متشبثًا بمنطق السلطة، وكأن عشرات الآلاف من الشهداء والمفقودين مجرد أرقام لا تعنيه.

ما كشفه قيصر لم يكن سوى جزءٍ بسيطٍ من الكارثة. خلال عامين فقط، هرب خمسةً وخمسين ألف صورة لشهداء قضوا تحت التعذيب، أي بمعدل سبعةٍ وعشرين ألف شهيدٍ سنويًا. وإذا اعتمدنا هذا الرقم كأساس، فإن الحسابات البسيطة تقودنا إلى أكثر من مليونٍ ونصف مليون شهيدٍ معتقل على مدى أربعة عشر عامًا. والمخيف أن هذه الأرقام لا تشمل سوى من وصلت صورهم إلى قيصر، بينما هناك عشرات الفروع الأمنية الأخرى التي لم تصل صور ضحاياها إلى العلن. الحقيقة قد تكون أكثر وحشيةً مما نتصور، وما خفي أعظم.

لكن السؤال الأكثر رعبًا ليس عن الشهداء، بل عن القتلة أنفسهم. كيف ينام بشار الأسد، ومحمد الشعار، والضباط الذين أشرفوا على التعذيب؟ كيف استطاعوا أن يناموا دون أن تطاردهم الكوابيس، دون أن يخنقهم صراخ الضحايا، دون أن يرتجفوا أمام دموع الأمهات؟ كيف لم يسألوا أنفسهم للحظة: ماذا لو كان ابني هو الذي يصرخ؟ ماذا لو كنت أنا المعلق في السقف؟ ماذا لو كنت أنا المحروق بالكهرباء أو الملقى في غرف الملح والأسيد؟

كيف استطاعوا أن يعيشوا حياةً مزدوجة، أن يكونوا آباءً وأزواجًا وأصدقاءً، بينما كانوا قتلةً وجلادين؟ كيف أقنعوا أنفسهم بأنهم ليسوا مجرمين؟ كيف استطاعوا أن يتظاهروا بأنهم بشرٌ بينما لا تزال أياديهم تقطر بالدماء؟

والأشد إيلامًا، أن بعضهم لا يزال يسير بين الناس، وكأن شيئًا لم يكن. لم يُحاكم، لم يُحاسب، لم ينل جزاءه. يعيش بين أهالي الشهداء، وربما يبتسم في وجوههم، بينما ذاكرته لا تزال تحمل الصرخات التي تجاهلها. نعم، تم القبض على بعضهم، لكن كم من قاتلٍ وجلادٍ لا يزال حرًا، يظن أن الزمن قد يمحو جرائمه، أو أن نسيان الشهداء يعني الغفران؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى