كشف موقع جسر روماني مفقود في النمسا السفلى بعد قرون من الغموض
فيينا – INFOGRAT:
اكتشف فريق من علماء الآثار في منتزه Donau-Auen الوطني قرب بلدة Stopfenreuth (منطقة Gänserndorf) في النمسا السفلى، بقايا أساسات لجسر روماني تاريخي يعود إلى القرن الثاني الميلادي، يُعتقد أنه الجسر المفقود الذي طال البحث عنه لعقود، ويُظهر هذا الجسر في نقوش عمود ماركوس أوريليوس (Marc-Aurel-Säule) الشهير في العاصمة الإيطالية روما، والذي يخلّد مشاهد من حروب الماركومان.
وبحسب وكالة الأنباء النمساوية (APA)، لم يتبقَّ من “Brückenkopfkastell” الروماني – أي القلعة العسكرية المخصصة لحماية الجسر – سوى بقايا جدران قليلة مرئية، وقد تمكن علماء الآثار في خريف عام 2024 ولأول مرة من إجراء دراسة علمية منهجية لتلك الآثار، وأزاحوا الستار عن أساسات مدفونة تحت الأرض تشير إلى وجود منشأة دفاعية مساحتها تتراوح بين هكتارين إلى ثلاثة.
وشرح كريستيان غوجل (Christian Gugl) من المعهد الأثري النمساوي (ÖAI)، أن القلاع في تلك الفترة كانت تُبنى بما يُعرف بـ”تصميم ورقة اللعب”، أي مستطيلة الشكل بزوايا مدورة. وأضاف أن التنقيبات كشفت عن الركن الشمالي للقلعة إلى جانب برج مراقبة مدوّر الزوايا. وقدّر العلماء أن طول كل من الجانبين الطويلين للقلعة كان نحو 100 متر، مع إمكانية استيعاب ما يقارب 500 جندي روماني في الموقع.
أول “Brückenkopfkastell” روماني موثّق في النمسا
تُعدّ هذه القلعة المكتشفة أول منشأة عسكرية رومانية موثّقة من نوع “Brückenkopfkastell” في النمسا، حيث كانت مثل هذه المنشآت معروفة فقط في المناطق الواقعة أسفل مجرى نهر الدانوب. ويؤكد غوجل: “كانت هذه القلاع مخصصة لحماية معابر النهر”، ما يدل على أن جسرًا رومانيًا كان قائمًا في المنطقة المجاورة مباشرة للقلعة.
ومن المعروف تاريخياً أن هناك جسرًا رومانيًا كان موجودًا قرب معسكر Carnuntum الروماني (منطقة Bruck an der Leitha). وقد جُسدت مشاهد العبور على نهر الدانوب على عمود ماركوس أوريليوس الرخامي في روما، حيث تظهر الجنود الرومان وهم يعبرون النهر خلال حروب الماركومان بين عامي 172 و175 ميلادي. وكانت تلك الحروب قد اندلعت بعد أن تمكنت قبائل الماركومان الجرمانية من التوغل في أراضي الإمبراطورية الرومانية حتى شمال إيطاليا.
جسر عائم من القوارب
أوضح إدوارد بولهامر (Eduard Pollhammer)، المدير العلمي لمدينة Carnuntum الرومانية، أن الإمبراطور ماركوس أوريليوس كان بحاجة لعبور سريع للقوات إلى “بارباريكوم” (Barbaricum) – أي الأراضي الواقعة شمال الدانوب والخارج عن السيطرة الرومانية. وتُظهر النقوش على العمود الجنود وهم يسيرون على جسر عائم من القوارب (Pontonbrücke).
يُعد هذا النوع من الجسور العائمة أبسط وأسرع طريقة لعبور الأنهار، إذ يُربط عدد من القوارب بالحبال وتوضع فوقها ألواح خشبية وعناصر إنشائية مؤقتة. هكذا تمكّن الجيش الروماني من التحرك الفوري نحو أراضي الماركومان.
العثور على موقع الجسر بدقة
ولأن الجسور العائمة لا تترك آثارًا حجرية دائمة، ظل موقع جسر ماركوس أوريليوس المرسوم على العمود الرخامي مجرد فرضية طيلة عقود، إلى أن جاء اكتشاف القلعة العسكرية قرب Stopfenreuth ليحسم الأمر.
واختير هذا الموقع تحديدًا لأنه، بحسب بولهامر، يشكل نقطة ضيقة طبيعية في مجرى نهر الدانوب، ما يجعله مثاليًا لإنشاء جسر، وقد كان كذلك حتى في القرن الثاني الميلادي. كما أن سهل Marchfeld المجاور اعتُبر منطقة استراتيجية فاصلة مع الأراضي الجرمانية، مما عزز من أهمية هذا المعبر.
توثيقٌ أثريّ للسياسات العسكرية الرومانية
أكد غوجل أن هذا الاكتشاف يتيح للمرة الأولى توثيقًا أثريًا للسياسات العسكرية الرومانية في مواجهة قبائل الماركومان، والتي كانت حتى الآن معروفة فقط من خلال المصادر المكتوبة. وقال: “كنا نجهل كيف كانت التفاعلات العسكرية والحدودية تجري بين الإمبراطورية الرومانية وامتدادها الميداني في مقدمة “Limes” الدفاعي (الحدود المحصنة) قرب Carnuntum”.
اكتشافات مادية تعود للفيلق الروماني الرابع عشر
خلال الحفريات، تم العثور على عدد كبير من القرميد الروماني الذي يحمل ختم الفيلق الرابع عشر، إضافة إلى قطع من الحلي وأبازيم أحزمة الجنود. ويجري حالياً تحليل هذه القطع الأثرية التي قد تسلط الضوء على تحركات الجيش الروماني في منطقة Marchfeld، حيث قضى الإمبراطور ماركوس أوريليوس ثلاث سنوات في Carnuntum لاحتواء الاضطرابات على الحدود الشمالية، ما يرجّح أن يكون قد عبر هذا الجسر بنفسه.
جسر تجاري استراتيجي على طريق الكهرمان
فضلاً عن الدور العسكري، كانت للجسر أيضًا أهمية تجارية كبرى، إذ ربط الإمبراطورية الرومانية بطريق الكهرمان (Bernsteinstraße)، أحد أهم طرق التجارة في العصور القديمة، الممتد من منطقة البلطيق عبر شبكة من الطرق إلى Carnuntum ومنها إلى قلب الإمبراطورية.
وبحسب بولهامر، شكّلت القلعة المحيطة بالجسر نقطة تفتيش ومراقبة لعبور الأشخاص والبضائع، وربما كانت تُستخدم أيضًا لفرض قيود على الصادرات، ما يعزز من الأهمية الاستراتيجية البالغة لهذه المنشأة العسكرية.
مصير مجهول بعد القرن الرابع
تُشير الأدلة الأثرية إلى أن القلعة وُجدت لنحو قرنٍ من الزمان، إذ لا توجد سوى بقايا نادرة تعود للنصف الثاني من القرن الرابع، ليختفي بعدها أي أثر لها. ويُعد مصير القلعة والجسر بعد ذلك غير معروف حتى الآن، ما يفتح المجال أمام المزيد من البحوث والتنقيبات المستقبلية.



