وصف المدون

اليوم

يعتقد الكثير من المسلمين الذين يعيشون في الغرب أو أولئك الذين يعيشون في البلدان المشرقية أنّ أوروبا وأميركا في حرب مفتوحة ضد الإسلام.

هذا اعتقاد خاطئ مبني على الأوهام، وحالة الضعف المستديمة في الذهنية الإسلامية، فكيف تكون أوروبا عدوة للإسلام وهي تستقبل ملايين المسلمين على أراضيها؟ فعندما أعلنت الولايات المتحدة (على سبيل المثال لا الحصر) حربها ضد الفكر الشيوعي الأممي؛ اجتثت جميع الناشطين الشيوعيين المقيمين على الأراضي الأميركية في سياق الحرب الأيديولوجية آنذاك، فلو كانت أميركا في حرب مفتوحة ضد الإسلام لما تأخرت لحظة واحدة في طرد المسلمين من أراضيها، وقد يسأل البعض مستفسرًا، وماذا عن حروب الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ألا تستهدف المسلمين أنفسهم؟ وقد يضيف آخر، ماذا عن قوانين الاتحاد الأوروبي التي باتت تستهدف المسلمين بصورة خاصة، ألا يوحي ذلك أن أوروبا –هي الأخرى- في حرب معلنة ضد الإسلام؟

إنّ أوروبا الحديثة والولايات المتحدة اللتين تأسستا بعقدين اجتماعيين جديدين بعد انتهاء الحربين العالميتين، وبعد مخاض أيديولوجي عسير، وحراك اقتصادي نشط، امتدا لقرنين من الزمن، وانتهيا أخيرًا، وقبل خمسين عامًا إلى إقرار صيغ اجتماعية جديدة فتحت الأبواب واسعًا للإقرار بالحقوق المتساوية بين جميع أفراد المجتمع، وإنكار الذات في سبيل الحد من العنصرية، وكل ذلك أتى كثمرة للتصالح مع الذات، لأنّ النظام الغربي الجديد بهويته الثقافية المزدهرة، وصيغته الرأسمالية حتّم إقرار ذلك التحول السريع الذي جعل الغرب محط أنظار العالم، ومن هنا بدأ المسلمون يشدون رحالهم إليه (الغرب) في سبيل أن يخلقوا لأنفسهم فرصًا أفضل للعيش الكريم لم يجدوها في بلدانهم الأصلية التي ولدوا فيها، فحققوا لذواتهم انجازات ونجاحات فردية كانوا يحلمون ببلوغها في المشرق، لكن الهواجس ظلت تؤرقهم، فيما إذا كانوا مستهدفين في هويتهم الدينية كمسلمين، وفاتهم إدراك حقيقة أنّ الغرب لديه حساسية مفرطة للغاية، بل وقلق متعاظم من أي تيارات سياسية حركية ذات حوامل دينية وأممية.

فالغرب تكلّف كثيرًا في حربه الأيديولوجية ضد الأممية الشيوعية، وهذا ما يعجز بعض المسلمين عن فهمه، رغم أنّ الغرب لا ينظر إلى المسلمين العاديين الذين يعيشون في أوروبا وأميركا كخطر داهم على أمنه ومكتسباته الثقافية التي حققتها الأجيال السابقة خلال قرن من الزمن إلا في سياق الإسلام الأممي ذي الخطاب الشعبوي الممجوج بالكراهية، واستحضار الماضي من طريق تذكير الأوروبيين بهويتهم الصليبية التي نسوها، وأصبحوا يشمئزون من ذكرها.

فأوروبا التي استقبلت ملايين المهاجرين المسلمين، لم تستقبلهم لتذلهم أو لتحط من كرامتهم، بل لتمنحهم فرصة جديدة للحياة كانوا قد فقدوها بيأس في أوطانهم الأصلية، وهي لا تتدخل قطعًا في تنظيم طقوسهم الدينية، ولا تفرض عليهم التحول إلى المسيحية في سياق اكتساب المزيد من الحقوق والفرص، بل تركتهم يواصلون حياتهم الطبيعية بهويتهم الدينية تحت سقف القانون والعيش المشترك، ودعتهم كذلك لافتتاح المساجد دون حسيب ولا رقيب، ولم تعترض البتة على ترجمة العديد من كتب التراث الإسلامي إلى اللغات الأوروبية وتوزيعها على الجمهور الأوروبي، كل ذلك لا يزال محفوظًا ومصانًا للمسلمين المقيمين في أوروبا كجزء أصيل وراسخ من حقوقهم المدنية، فأوروبا ليست في صراع نفسي مهووس، ولا في تناقض مع ذاتها بحيث إنها تستقبل المسلمين على أراضيها ثم تبدأ في استهدافهم، لكنها في مواجهة واضحة ومكشوفة مع الإسلام السياسي ببعده الأممي الذي يريد أن يجعل من المسلمين المقيمين في الغرب طابورًا خامسًا لنسف كل المكتسبات التي حققها الغرب لشعوبه، وفي الوقت عينه لإعادة إنتاج حقبة الصراع الأيديولوجي التي رماها الغرب وراء ظهره، والأخطر من ذلك كله، أن تغلغل الإسلام الأممي في مفاصل الحياة الأوروبية إنما يغذي الذهنية الراديكالية الغربية، ويعزز نمو الأحزاب والحركات اليمينية التي يسعى الغرب جاهدًا إلى الحد منها ومحاصرتها اجتماعيًا وسياسيًا عبر حزمة من القوانين والتشريعات، فهل يعقل أن يضحي الغرب بكل مكتسباته عبر السكوت، وإمساك اللسان عن أي تهديد مباشر له، أم أن من حقه أن يفرض القوانين التي يراها ضرورة حاسمة لحماية أمنه وهويته وثقافته من أي تغلغل أيديولوجي، من دون المساس طبعًا بالحريات العامة التي يكفلها للجميع؟

مؤخرًا، وقبل عقد من الزمن، أخذ الإسلام السياسي يطل برأسه في أوروبا تعويضًا عن فشله في استثمار "الربيع العربي" فتبرير الفشل بالنسبة له لا يكون إلا بتحويل المسلمين إلى أبواق وحطب في صراعاته العبثية مع الغرب، الأمر الذي جعل الأخير يراجع حساباته، ويفاضل -تقديرًا لديمومة مصالحه- بين الأنظمة العربية القائمة، وبين الإسلام السياسي -الأممي.

ثائر الناشف كاتب وروائي سوري


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

شكراً لك على مشاركة رأيك.. لنكتمل بالمعرفة

Back to top button