الأسديون الطيبون: رحلة التحول من أدوات الظلم إلى دعاة السلام
فيينا – INFOGRAT:
في الثورة السورية التي شهدت أعنف صراعات القرن الحديث، برزت الكثير من الشخصيات التي كانت جزءاً من آلة القمع والظلم، سواء على المستوى السياسي أو الأمني أو العسكري أو الرياضي، وحتى الإعلامي والديني والفني. هؤلاء كانوا بمثابة أذرع للنظام الذي قاده الهارب بشار الأسد، وساهموا في تبرير أفعاله أو تنفيذها على الأرض. ولكن مع تغير المعادلات الحربية والسياسية وهروب بشار الأسد إلى موسكو، تحول بعض هؤلاء من مروجين للسلطة إلى أنبياء للسلام في محاولة منهم لإعادة رسم صورتهم بعيداً عن الماضي الذي شاركوا في تشكيله.

سوري مقيم في فيينا
البداية: أسس النظام وأذرعه
منذ أن تسلّم بشار الأسد السلطة، عمل على تعزيز نظامه بأشخاص ذوي ولاء تام له وللعائلة الحاكمة. كان النظام يعتمد على شبكات متشابكة من المسؤولين والضباط ورجال الأعمال وحتى المثقفين والإعلاميين والمشايخ والرياضيين. تم تجنيد هؤلاء ليكونوا واجهته أمام الشعب والعالم، وكان دورهم الأساسي هو تلميع صورة النظام وإخفاء ممارساته القمعية.
ساهم هؤلاء في تبرير المجازر وقمع الاحتجاجات والتحريض ضد من طالبوا بالحرية والعدالة. كانت أصواتهم عالية في الدفاع عن سيادة الدولة، بينما كانوا يغضون الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها النظام.
لحظة الانهيار: سقوط القناع
مع تصاعد وتيرة الحرب وخسارة النظام للكثير من الأراضي والمواقف الدولية، بدأ التحالف مع الأسد يضعف تدريجياً، وبخاصة مع اضطرار الأسد للاعتماد على القوى الخارجية مثل روسيا وإيران. أصبحت الصورة واضحة أمام الجميع: النظام بات أضعف من أي وقت مضى.
عندما فرّ الأسد إلى موسكو تحت غطاء الدعم الروسي، كان ذلك بمثابة نقطة تحول كبرى. لقد أدرك الكثير من هؤلاء الذين كانوا جزءاً من منظومة الحكم أن السفينة تغرق وأن عليهم القفز منها قبل فوات الأوان. بدأوا ينأون بأنفسهم عن ماضيهم شيئاً فشيئاً، وراحوا يتقمصون أدواراً جديدة أكثر نعومة.
الأسديون الطيبون: من أدوات القمع إلى دعاة السلام
تغيرت لهجة هؤلاء بشكل واضح من الدفاع المستميت عن الحكم والاستقرار إلى الحديث عن أهمية السلام والتعايش والحوار. أصبحوا فجأة يكتبون المقالات ويعقدون المؤتمرات ويتصدرون شاشات الفضائيات بصفتهم خبراء سلام يتحدثون عن المآسي التي عاشها الشعب السوري بل ويتباكون عليها وكأنهم لم يكونوا جزءاً من أسبابها.
هذا التحول ليس نابعا من صحوة ضمير حقيقية بقدر ما هو استجابة لمتغيرات المرحلة السياسية. إنهم يسعون لتبييض تاريخهم الأسود وإعادة إنتاج أنفسهم كشخصيات جديدة تصلح للمشهد القادم، أياً كان شكله.
النفاق السياسي والمجتمعي
إن ظاهرة “الأسديون الطيبون” ليست غريبة في سياقات الدول التي عاشت تحت حكم أنظمة استبدادية. فالتاريخ مليء بأمثلة لأشخاص تخلوا عن ولائهم بعد سقوط النظام وتحولوا إلى مناضلين ضد الاستبداد. لكن المشكلة في الحالة السورية هي أن هذا التحول يتم دون محاسبة أو مساءلة.
الانتهاكات بلا حساب: العديد من هؤلاء كانوا على علم بالجرائم التي ارتكبها النظام بل وشاركوا في تنفيذها أو تبريرها، ورغم ذلك لم يخضعوا لأي مساءلة حقيقية.
استغلال المعاناة: يحاول هؤلاء ركوب موجة المعاناة الشعبية للترويج لأنفسهم كأبطال سلام ومصالحة.
إعادة إنتاج النظام: إن هؤلاء الذين يظهرون بمظهر الطيبين اليوم قد يصبحون أداة لإعادة إنتاج نظام الاستبداد نفسه ولكن بواجهة جديدة.
مستقبلهم: هل يمكن الوثوق بهم؟
لا شك أن المجتمع السوري قد تعلم الكثير من سنوات الثورة والحرب القاسية. الثقة ليست سلعة رخيصة يمكن استرجاعها بخطابات منمقة أو مقالات عاطفية. إن محاسبة هؤلاء ومساءلتهم عن أدوارهم السابقة هي شرط أساسي لأي عملية سلام حقيقية، فالعدالة الانتقالية لا تعني فقط المصالحة، بل تعني أيضاً كشف الحقيقة وتحقيق الإنصاف للضحايا.
إذا كان “الأسديون الطيبون” صادقين في تحولهم، فعليهم أولاً أن يعترفوا بمسؤوليتهم عما جرى وأن يعتذروا علناً للشعب السوري. أما دون ذلك فسيبقون مجرد وجوه جديدة لنظام قديم.
خاتمة
في النهاية، لا يمكن أن يُبنى مستقبل سوريا على النفاق والتملص من المسؤولية. “الأسديون الطيبون” قد ينجحون في خداع البعض لبعض الوقت، لكن الحقيقة ستظل أقوى من كل محاولات التزييف. لن ينسى الشعب السوري من وقف معه في محنته، ولن ينسى أيضاً من شارك في ظلمه ثم ادعى الطيبة فجأة.



