جدل سياسي في النمسا حول تفسير الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان

طالب رئيس حكومة ولاية كيرنتن بيتر كايزر (من الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي SPÖ)، مساء الأربعاء، بفتح نقاش حول “تطوير” الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (EMRK)، مما أجّج الجدل السياسي الدائر في النمسا بشأن ميثاق الحقوق هذا، الذي يُعد مرجعًا دستوريًا في البلاد. ويأتي هذا التحرك بعد دعوة مماثلة أطلقها المستشار النمساوي كريستيان ستوكر (من حزب الشعب النمساوي ÖVP) نهاية مايو. وقد وصف خبراء هذه التحركات بأنها “رمزية” و”صراع على الهيمنة التفسيرية” في الساحة السياسية.

وبحسب وكالة الأنباء النمساوية (APA)، جاء تصريح بيتر كايزر، الذي يشغل منصب نائب رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ويستعد لمغادرة منصبه كرئيس لحكومة ولاية كيرنتن، متأخرًا بحسب توصيف عالم السياسة بيتر فيلتسماير، الذي اعتبر توقيت هذا التصريح “مفاجئًا”، ورأى فيه محاولة متأخرة للمشاركة في نقاش عام يتّسم بسلوك “الفعل وردّ الفعل”. واعتبر فيلتسماير أن تصريح كايزر يأتي ضمن صراع سياسي حول “الهيمنة التفسيرية” لمفاهيم حقوق الإنسان والهجرة.

وكان المستشار كريستيان ستوكر (ÖVP) قد طالب نهاية مايو بتعديل في الممارسة القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (EGMR)، خاصة في ما يتعلّق بقضايا الهجرة وترحيل المجرمين الأجانب. وقد سبقت ذلك مبادرة من تسع دول أوروبية دعت إلى إعادة تفسير بنود الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بما يسهّل عمليات الترحيل.

سياسة رمزية وغياب إمكانيات التعديل الواقعي

الباحثة في العلوم السياسية كاترين ستاينر-هيمّيرله رأت أن مداخلة كايزر تدخل في إطار “السياسة الرمزية”، لافتة إلى أن تعديل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ليس بالأمر السهل، بل يتطلب إجماعًا من الدول الموقعة، كما أن الاتفاقية لها مكانة دستورية في النظام القانوني النمساوي. وأوضحت أن كايزر لم يطالب فعليًا بتعديل الاتفاقية، بل بدعوة إلى “نقاش مفتوح وغير أيديولوجي” حول تطويرها.

وأكدت ستاينر-هيمّيرله أن التركيز السياسي على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يُعد “تحويلًا للنقاش عن جذور المشاكل الحقيقية في ملف الهجرة”، مثل تعقيدات الإجراءات الإدارية أو الإخفاق المؤسسي في تنفيذ قرارات الترحيل.

تباينات حزبية ومكاسب محتملة لحزب الحرية

يرى فيلتسماير أن النقاش الحالي هو بمثابة “عرض تواصلي سياسي” لا يُتوقّع أن يسفر عن نتائج قانونية في القريب العاجل، إذ أن جوهر الجدل هو ملف الهجرة. ولفت إلى أن بنود الاتفاقية، مثل الحق في الحياة الأسرية، تؤثر على قضايا مثل لمّ الشمل، مما يعقّد تنفيذ عمليات الترحيل. ويرى أن هذا النوع من النقاشات يخدم في النهاية حزب الحرية (FPÖ)، الذي يركّز خطابه منذ سنوات على إعادة صياغة الاتفاقية، واتهم الحزبين الكبيرين (ÖVP وSPÖ) سابقًا بأنهما “شيطنا” هذا الطرح.

في المقابل، اعتبر فيلتسماير أن حزب الشعب النمساوي يظن أن تكرار استراتيجية الاستحواذ على أجندة حزب الحرية، كما فعل في عهد زعيمه السابق سيباستيان كورتس، قد يُثمر مجددًا، لكنه يرى أن التجارب الانتخابية الأخيرة أثبتت محدودية هذه المقاربة.

موقف غامض لحزب NEOS وفرصة أمام الخضر

أعرب فيلتسماير عن استغرابه من دعم زعيمة حزب NEOS ووزيرة الخارجية السابقة، بياته ماينل-رايسينغر، لمبادرة تعديل التفسير القضائي، معتبرًا أن هذا الموقف لا ينسجم مع التوجهات السياسية العامة لحزبها، الذي يمكن أن يعبّر أيضًا عن مواقف معارضة لهذا التوجه ويكسب من ورائها.

أما حزب الخضر، فيرى فيه كل من فيلتسماير وستاينر-هيمّيرله طرفًا يمتلك الآن فرصة للتعبير عن موقف معارض بشكل أوضح، بعد أن قيّدته مشاركته السابقة في الحكومة بشأن قضايا اللجوء والهجرة. وقد انتقد الحزب في بيان رسمي موقف كايزر ووصفه بأنه “خضوع مقلق للقوى الشعبوية اليمينية”.

خلافات داخلية في الحزب الاشتراكي تعود إلى الواجهة

من جهة أخرى، يعاني الحزب الاشتراكي الديمقراطي من انقسامات داخلية واضحة حول ملف الهجرة، حيث يدعم كل من بيتر كايزر وبيتر دوسكوتسيل (حاكم بورغنلاند) النقاش حول تطوير الاتفاقية، في حين يرفضه الزعيم الحزبي أندرياس بابلر، مشيرًا إلى أن موقف الحزب “واضح ومخالف لذلك”. وقد انتقد دوسكوتسيل تصريحات المستشار ستوكر، واعتبر دعوته إلى مراجعة قرارات المحكمة الأوروبية “مرفوضة”.

يرى فيلتسماير أن هذه التصريحات تعيد الحزب الاشتراكي إلى أجواء الانقسام التي حاول مؤخرًا تجاوزها، مذكرًا بأن الحزب بالكاد نجح في الخروج من “مرحلة الحرب الداخلية”، لكنه مهدد بالعودة إلى حالة التفكك بسبب تصريحات غير منسقة داخل القيادة.

كاترين ستاينر-هيمّيرله أوضحت أن التباين داخل الحزب حول قضايا الهجرة ليس جديدًا، مشيرة إلى انقسام تاريخي بين جناح نقابي في السابق وجناح فيينا، واليوم بين شخصيات مثل دوسكوتسيل (ضابط شرطة حدودي سابق) وبابلر (رئيس بلدية سابق لمدينة ترايسكيرشن، المعروفة بمركز استقبال اللاجئين).

نقد للسلطة القضائية وتحذير من المساس بالحقوق الأساسية

أشارت ستاينر-هيمّيرله إلى خطورة تحميل المحاكم المسؤولية السياسية، ووصفت ذلك بأنه “هروب من المسؤولية السياسية”، مؤكدة أن الاتفاقية لا تمنع الدول الأوروبية من إيجاد حلول فعّالة، بل توفّر إطارًا يجب احترامه.

أما فيلتسماير ففرّق بين محاولة تغيير الاتفاقيات الدولية وهو أمر “صعب لكن جائز”، وبين توجيه النقد للمحاكم وطريقة إصدارها للأحكام، واعتبر ذلك “غير جائز”.

واختتمت ستاينر-هيمّيرله بتحذير من المساس بمبادئ أساسية مثل تلك التي تتضمنها الاتفاقية الأوروبية، وضرورة الحفاظ عليها كركيزة للديمقراطية، مع إمكانية مناقشة كيفية تطبيقها وتفسيرها ضمن الظروف الحالية.

خبير قانوني: النقاش تجاوز جوهر المشكلة

أشار الخبير في القانون الدولي، رالف يانيك، من جامعة سيغموند-فرويد في فيينا، إلى أن النقاش حول الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان يتجاهل الأسباب الحقيقية لفشل بعض عمليات الترحيل، وأبرزها “الإخفاق الإداري” أو غياب المعطيات الدقيقة حول الحالات التي رفضت فيها المحكمة الأوروبية الترحيل.

وأوضح أن جوهر الاتفاقية هو الحظر المطلق للتعذيب، وهو ما يعرقل ترحيل المدانين إلى دول يواجهون فيها خطر التعذيب، وأضاف: “لقد أجبنا عن هذا السؤال منذ زمن: لا يجوز تعذيب أي إنسان، مهما كانت جرائمه بشعة”. لكنه أشار إلى تغيّر في الاتجاه السياسي العام، حيث يتم توظيف مبادئ حقوق الإنسان حسب المصلحة الحزبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى