مقال: الوطن غال حين ينتصر الشعب على الظلم والطغيان
فيينا – INFOGRAT:
“الوطن غال، الوطن عزيز، الوطن شامخ، الوطن صامد… الوطن هو الماضي والحاضر والمستقبل.”
بهذه الكلمات خاطب حافظ الأسد صاحب القبر المحروق الشعب ذات يوم، رافعًا شعارات تبدو في ظاهرها وطنية، لكنها في حقيقتها لم تكن سوى ستار يختبئ خلفه نظام قائم على الاستبداد والسيطرة المطلقة على مقدرات الوطن والشعب. مر الزمن، ورأى السوريون بأعينهم كيف تحولت هذه الكلمات إلى مجرد أدوات دعائية لنظام لم يعرف للوطن قيمة إلا بمقدار ما يحقق من مصالح ضيقة لنخبته الحاكمة.

سوري مقيم في فيينا
من الشعارات إلى الواقع المرير
عندما تولى بشار الأسد السلطة بعد والده، كان الأمل يداعب قلوب السوريين بالتغيير والإصلاح، لكن سرعان ما تلاشت هذه الآمال، ليكشف الغطاء عن استمرارية النهج القديم. تحولت سوريا إلى دولة بوليسية تحكمها الأجهزة الأمنية، وتم خنق أي صوت معارض أو مطالب بالإصلاح. سادت المحسوبية والفساد أركان الدولة، وأصبحت الثروات محتكرة في أيدي فئة صغيرة على حساب ملايين السوريين الذين يكافحون من أجل لقمة العيش.
تعمقت الفجوة بين السلطة والشعب، وصار الوطن مسرحًا لصراعات على النفوذ والسلطة، بعيدًا عن هموم المواطن اليومية. بدت سوريا وكأنها تسير نحو المجهول، حتى أتى ذلك اليوم الذي قال فيه الشعب كلمته، وخرج في ثورة سلمية تطالب بالحرية والكرامة.
الثورة صرخة شعب في وجه الطغيان
انطلقت الثورة السورية كحركة شعبية عفوية، تعبر عن أحلام البسطاء الذين يريدون وطنًا ينعمون فيه بالعدالة والمساواة. واجه النظام هذه المطالب بالقمع المفرط والعنف الدموي، وتحولت ساحات المدن والقرى السورية إلى مسارح للقتل والتنكيل.
استمر النظام في استخدام شعارات الوطن والوطنية لتبرير جرائمه، لكنه لم يدرك أن الوطن الحقيقي يسكن في قلوب أولئك الذين خرجوا ليهتفوا “حرية وكرامة”. سقطت الأقنعة سريعًا، وأصبح جليًا أن الوطن لم يكن أبدًا الهدف الحقيقي للنظام، بل كان مجرد شعار يتغنى به على المنابر ووسائل الإعلام.
سقوط وهم الحزب الواحد والزعيم الأوحد
طوال عقود، حاول حزب البعث أن يقنع السوريين بأنه الحزب الوحيد القادر على حماية الوطن وبنائه. لكن الثورة كشفت زيف هذه الادعاءات، وأظهرت أن الحزب لم يكن سوى أداة للهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة. أما الزعيم الأوحد، فقد أثبتت سنوات الثورة أنه كان مستعدًا لتدمير الوطن بأكمله من أجل البقاء في السلطة.
انتصار الشعب بداية جديدة لوطن يستحق الحياة
اليوم، وبعد سنوات طويلة من الألم والمعاناة، انتصر الشعب السوري على الطغيان. سقطت رموز القمع، وتهاوت جدران الخوف التي بناها النظام لعقود. هذا الانتصار لم يكن مجرد سقوط نظام، بل كان ولادة جديدة لوطن حر، ينتمي لجميع أبنائه دون تمييز أو إقصاء.
التحديات التي تواجه سوريا بعد هذا الانتصار ليست بسيطة، فإعادة بناء الوطن الممزق تتطلب جهودًا جبارة وتضحيات مستمرة. لكن الأمل موجود، والإرادة الشعبية قادرة على صنع المعجزات.
الوطن ليس ملكًا لأحد
لقد علمتنا السنوات الماضية أن الوطن ليس ملكًا لعائلة حاكمة، ولا لحزب مسيطر، ولا لطائفة معينة. الوطن هو ملك لكل مواطن يساهم في بنائه ويحافظ على وحدته. لا يمكن أن يبنى الوطن على الخوف والقمع، بل على الحرية والعدالة والمساواة.
سوريا الجديدة يجب أن تكون دولة القانون والمؤسسات، حيث تحترم حقوق الإنسان وتصان كرامة المواطن، بعيدًا عن الممارسات التي أسست لعقود من الظلم والفساد.
الأمل بالمستقبل: سوريا للجميع
سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق، وأمامها فرصة تاريخية للانطلاق نحو مستقبل مشرق. شعبها الذي صمد وقاوم وواجه أعتى آلة قمعية، قادر على بناء وطن يليق بتضحياته.
المستقبل يجب أن يكون قائمًا على التعايش السلمي بين جميع مكونات الشعب السوري، بعيدًا عن النزاعات الطائفية أو العرقية. الوطن الذي حلم به السوريون في بداية الثورة ليس مجرد أرض وراية، بل هو كرامة وعدالة وحرية لكل مواطن.
كلمة أخيرة
الوطن غالٍ حقًا، لكنه لا يكون كذلك إلا عندما يحترم الإنسان الذي يعيش فيه. الوطن ليس قصورًا فاخرة ولا حسابات مصرفية متخمة، بل هو مدرسة تعلم الأجيال معنى الحب والانتماء.
لقد قال حافظ الأسد صاحب القبر المحروق ذات يوم إن الوطن غالٍ وعزيز، لكن الشعب السوري اليوم هو من جسد هذه الكلمات على أرض الواقع، ليس بالشعارات، بل بالتضحيات والدماء والعرق. سوريا الحرة، سوريا الكرامة، سوريا المستقبل، هذا هو الوطن الذي يستحقه السوريون، وهذا هو الوطن الذي سيبقى شامخًا، رغم كل ما مر به من آلام وجراح.



