وفاة بيلناتشيك وملفات حساسة.. تحقيقات تقود إلى دهاليز فساد السياسيين في النمسا

أثار ظهور قرص صلب صغير باللون الأحمر يحتوي على آلاف الملفات من فترة تولي السياسي النمساوي وولفغانغ سوبوتكا (Wolfgang Sobotka) منصب وزير الداخلية، جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية والإعلامية، بعدما تبين أن هذه الملفات كانت محفوظة على حاسوب النائب السابق لرئيس قسم العدالة، كريستيان بيلناتشيك (Christian Pilnacek)، الذي توفي في أكتوبر 2023. وقد أعيد فتح ملفه من جديد بعد أن قام السياسي والصحافي السابق بيتر بيلتس (Peter Pilz) بتسليم القرص إلى النيابة العامة لمكافحة الفساد (WKStA).

وبحسب صحيفة derstandard النمساوية، البيانات التي وردت على هذا القرص تعود لفترة تقارب العقد، وتضم وثائق سياسية حساسة، يعود بعضها إلى عام 2008، غير أن الغالبية الكبرى تتعلق بفترة سوبوتكا كوزير للداخلية بين عامي 2016 و2017، وتشمل هذه الوثائق تحضيرات لجلسات مجلس الوزراء، ومسودات لرسائل شكر وتعازٍ، ومراسلات تتعلق بمشاريع قوانين، وملاحظات حول تدخلات سياسية وملفات شخصية عن صحفيين وشخصيات عامة.

الملفات تعود للظهور بعد الوفاة

وفقًا لمحضر أعدته النيابة العامة لمكافحة الفساد، وُجدت “مؤشرات جنائية” على الحاسوب المحمول الخاص بيلناتشيك، من بينها مجلد تم حذفه بعنوان “Sobotka Kabi”، أي “كابينة سوبوتكا الوزارية”. وقد عاد هذا المجلد للظهور على قرص صلب خارجي صغير، قال بيتر بيلتس إنه كان بحوزته منذ فترة، وقد سلم محتواه للنيابة في مطلع هذا الأسبوع.

ما أثار الشكوك هو كيفية انتقال هذه البيانات من وزارة الداخلية إلى الحاسوب الشخصي لبيلناتشيك، لا سيما بعد وفاته التي اعتبرتها السلطات انتحارًا، رغم الملابسات الغامضة التي أحاطت بسلوك بيلناتشيك في أيامه الأخيرة، وتشير التحقيقات إلى صلة محتملة بين البيانات وشخص يُدعى آنا پ. (Anna P.)، وهي شريكة سكن صديقة بيلناتشيك، وتخضع حاليًا للتحقيق بتهمة الإدلاء بتصريحات كاذبة حول مصير الحاسوب المحمول، وتؤكد المتهمة براءتها ويُفترض فيها مبدأ البراءة.

محتوى القرص: بين السياسة والإعلام والمجاملات

تُظهر الوثائق الموجودة على القرص الممارسات اليومية داخل الوزارة، من التخطيط الإداري والسياسي إلى التفاعل مع طلبات المواطنين، لكن أيضًا تتضمن ملاحظات وملفات تتعلق بتدخلات سياسية واضحة. من بين الوثائق نسخة من “قائمة التدخلات” التي سبق أن ظهرت في محادثات داخلية لموظف وزارة الداخلية مايكل كلوبيمولر (Michael Kloibmüller)، والذي كان رئيس مكتب سوبوتكا آنذاك. كانت هذه القائمة تحتوي على تصنيف دقيق لطلبات التدخل تحت بندي “To Do” (ما يجب إنجازه) و”To Do Erledigt” (تم إنجازه).

من بين الحالات المذكورة، تدخل عمدة تابع لحزب الشعب النمساوي (ÖVP) لطلب تأجيل خدمة ابنه المدنية إلى ما بعد تخرجه من الجامعة، وتم تسجيله كمُنجز. كما ظهرت مطالب تتعلق بإعادة التأهيل الصحي، وحضور افتتاحات لمعارض، وتكريمات شخصية، مثل حالة رجل الأعمال النمساوي سيغفريد وولف (Siegfried Wolf)، الذي تم تكريمه في يونيو 2018.

ملفات شخصية عن سياسيين وصحفيين

من الملفات المثيرة للجدل، مجلد خاص بعنوان “Recherche” يحتوي على ملفات تعريفية عن شخصيات بارزة مثل هانس بيتر هازلشتاينر (Hans Peter Haselsteiner)، مؤسس حزب “Neos”، وبيتر بيلتس نفسه. رغم أن معظم المعلومات مأخوذة من مصادر علنية، إلا أن جمعها وتوثيقها بهذا الشكل يُظهر أسلوب عمل شبه استخباراتي من داخل وزارة يفترض فيها الحياد.

الملف الخاص بهازلشتاينر يتضمن فصلاً بعنوان “هازلشتاينر والماسونية”، مقتبس في معظمه من مقابلة صحفية مع صحيفة Der Standard، ويحتوي أيضًا على سرد لإخفاقاته التجارية مثل استثماره غير الناجح في شركة Kneissl في ثمانينات القرن الماضي، وصلاته برجال أعمال مثل رينيه بينكو (René Benko) والمستشار السابق ألفريد غوسنباور (Alfred Gusenbauer).

استخدام موارد الدولة لأغراض حزبية؟

أحد الجوانب الأخطر في هذه القضية يتمثل في دلائل على استخدام موارد الوزارة، مثل أدوات جمع الأخبار، في نشاط حزبي واضح. إذ تبيّن وجود “دليل إعلامي” صادر عن مقر حزب ÖVP في شارع Lichtenfelsgasse 7، يُظهر تطوير أداة للحصول على الأخبار المدفوعة من وكالة الأنباء النمساوية APA مجانًا، ما يثير شبهة إساءة استخدام البيانات والمؤسسات الحكومية.

صمت سوبوتكا والتحقيق البرلماني المرتقب

رفض سوبوتكا التعليق على البيانات، واكتفى متحدث باسمه بالقول إنه “لا يعلّق على معلومات تم الحصول عليها بطرق غير شفافة أو ربما غير قانونية”، مشددًا على أنه “لا ينبغي أن تكون هذه المواد أساسًا للتكهنات العامة”.

ويترأس سوبوتكا اليوم الأكاديمية السياسية لحزب ÖVP، وقد تدهورت علاقته مع بيلناتشيك في سنواته الأخيرة، إذ عبر الأخير عن خيبة أمله العميقة من الحزب، قائلاً في تسجيل سري تم التقاطه قبل وفاته: «حين سألتهم إن كانوا سيدعمونني، قالوا: أنت لم تكن واحدًا منا أبدًا. ولم تمنع مداهمة واحدة بحقنا. هكذا يفكرون».

قبل يوم واحد من وفاته، تواصل بيلناتشيك مع الأمين العام لحزب FPÖ كريستيان هافينيكر (Christian Hafenecker) طالبًا لقاء مع زعيم الحزب هربرت كيكل (Herbert Kickl)، ثم تم توقيفه وهو يقود سيارته في الاتجاه المعاكس تحت تأثير الكحول. وقد اصطحبته آنا پ. إلى منطقة روساتس (Rossatz)، حيث اختفى من دون هاتفه أو محفظته، ليعثر عليه لاحقًا ميتًا في ذراع فرعي لنهر الدانوب.

ورغم أهمية الأدلة الرقمية، تم تسليم هاتفه المحمول إلى زوجته كارولين ليست (Caroline List)، رئيسة محكمة غراتس والمقربة من حزب ÖVP، في نفس يوم الوفاة ومن دون استشارة النيابة العامة، بينما فُقد الحاسوب المحمول قبل أن يظهر لاحقًا لدى صحيفة Kronen Zeitung ثم يُسلّم للنيابة.

دعوات لتشكيل لجنة تحقيق برلمانية

يطالب سياسيون من المعارضة، في مقدمتهم بيتر بيلتس وحزب FPÖ، بإجراء تحقيق برلماني شامل في القضية، متهمين الشرطة بالإهمال أو التستر على أدلة محتملة ذات طابع سياسي. وتنفي الشرطة ذلك، مؤكدة أنها التزمت بالإجراءات.

ومن المرتقب أن تُفتح هذه الملفات بشكل رسمي ضمن لجنة تحقيق برلمانية في الخريف المقبل، لكشف ملابسات وفاة بيلناتشيك، واستخدام موارد الدولة لأغراض سياسية، وما إذا كانت هناك شبكة منظمة للتدخلات والتكريمات والولاءات الحزبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى