بعد خمس سنوات من عملية الأقصر.. أين اختفى ملف الإخوان في النمسا؟

مقال لـ أحمد مراد

تغاضت السلطات الأمنية والمخابراتية في النمسا عن جماعات وشخصيات الإسلام السياسي، بما في ذلك جماعة “الإخوان المسلمين”، على مدى عقود، رغم محاولات محدودة في أعقاب هجوم الثاني من نوفمبر 2020، لكن هذه الجهود تلاشت دون نتائج ملموسة، وسط تساؤل حول غياب الإجراءات ومصير التحقيقات.

وبينما يستمر ظهور نشاطات وتحركات لرموز وتيارات الإسلام السياسي في النمسا، تتواصل محاولات التعتيم والضغط الإعلامي من قبل تلك الجماعات، مقابل صمت رسمي مريب، ما يثير الشكوك حول مدى جدية الدولة في معالجة ملف التطرف المؤدلج.

م. أحمد مراد
اعلامي عربي
مقيم في فيينا

ملف الإسلام السياسي في النمسا: جدلية الصمت والتغاضي

منذ سنوات طويلة، شكّل ملف جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة “الإخوان المسلمين”، معادلة صعبة في النمسا، الدولة التي لطالما تغنت بسيادة القانون وحماية الديمقراطية، ورغم تعدد التقارير والتحذيرات من تغلغل تلك الجماعات داخل المؤسسات المجتمعية والتعليمية والدينية، فإن الدولة النمساوية لم تتخذ أي خطوات جادة لاحتواء هذا الملف المعقد إلا بعد حادثة 2 نوفمبر 2020، حين وقع الهجوم الإرهابي وسط فيينا.

في أعقاب ذلك، أطلقت السلطات الأمنية النمساوية حملة تفتيش ومداهمات موسعة، عُرفت إعلاميًا باسم “عملية الأقصر”، استهدفت عشرات الشخصيات والمؤسسات المرتبطة بتنظيمات إسلامية، خصوصًا تلك المرتبطة بفكر الإخوان. وقد شملت الإجراءات حينها تفتيش منازل، مصادرة أجهزة، والتحقيق في حسابات مالية وسجلات معقدة.

لكن، ومع مرور الوقت، بدأ زخم هذه العملية يتلاشى، وبعد خمس سنوات من إطلاقها، لم يُعلن عن نتائج ملموسة، بل لم يعد أحد يسمع عن تطوراتها، وكأنها كانت مجرد ردّ فعل مؤقت لحادثة دامية.

من الضحية إلى المهاجم: الجماعات ترد بمقاضاة الدولة

اللافت في المشهد أن العديد من الجمعيات والأفراد الذين طالتهم المداهمات الأمنية، لم يُثبت عليهم أي تهم حاسمة، بحسب ما رشح من تقارير. بل إن بعضهم هدد برفع دعاوى قضائية ضد الدولة النمساوية، مدّعين أن الحملة كانت تستهدف “مسلمي النمسا كافة” وليس فقط “مشتبها بهم في التطرف”. وقد تناول برنامج “ما خفي أعظم” على قناة الجزيرة هذه المزاعم، ما أعطى للقضية بعدًا سياسيًا وإعلاميًا يداعب مشاعر الكثيرين من “المقاومين”.

القضاء لا ينصف… أم أن ميزان العدالة معطوب؟
في خضم هذا المشهد المعقّد، يلفت الانتباه أن كل من يحاول مقاضاة جماعات الإسلام السياسي، أو تُقدم هذه الجماعات على مقاضاته، ينتهي به المطاف إلى الخسارة الحتمية، سواء أمام المحاكم أو في ساحة الرأي العام. بسبب استئجارهم لأهم المحامين و”أغلاهم ثمناً” و “أعرقهم خبرة”، حيث لا تُعرف حالة واحدة خرج فيها طرف مناوئ لهذه الجماعات منتصرًا قضائيًا أو إعلاميًا، بل إن النتائج دائمًا ما تكون في صالح تلك الجماعات، ما يثير تساؤلات عميقة:
هل نحن أمام مصادفة قضائية متكررة؟
أم أن هناك مقايضة خفية تحت الطاولة؟
أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى تخادم مريب بين أطراف في مؤسسات الدولة وهذه الجماعات؟

الأسئلة لا تزال مطروحة، والإجابات تغيب في ظل صمت رسمي، وصدى قانوني لا يُفسر هذا التكرار الغريب في موازين العدالة. في بلد يُفترض أن يحتكم فيه الجميع إلى القانون، يبدو أن النفوذ الناعم لتلك الجماعات وصل إلى أروقة القضاء والإعلام، وربما ما هو أبعد.

عمليات أمنية متكررة بلا نتائج واضحة

في الوقت نفسه، لا يكاد يمر شهر في النمسا دون الإعلان عن إحباط عملية إرهابية أو تفتيش شقة أو محاكمة أحدهم بتهم الانتماء إلى داعش، لكن هذه القضايا غالبًا ما تنتهي دون تبعات مؤسسية أو إصلاحات وقائية حقيقية. وتستمر بعض الشخصيات والجمعيات المحسوبة على تيارات الإسلام السياسي في رفع صوتها، تارةً بلغة المظلومية، وتارةً بلغة التحريض، بينما تبدو أجهزة الأمن وكأنها في غيبوبة استراتيجية.

فرنسا تتحرك… والنمسا تراقب

في المقابل، تتحرك فرنسا بشكل واضح نحو سنّ قوانين تستهدف جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتها “الإخوان”. وقد شهدت باريس مؤخرًا زيارة تنسيقية من وزيرة الأسرة والاندماج النمساوية، كلاوديا بلاكلوم، للاطلاع على التجربة الفرنسية في مواجهة التطرف المؤدلج. ورغم هذه الزيارة، لم يصدر عن فيينا حتى الآن أي مؤشرات عن نية فعلية لتبني إجراءات مماثلة.

تحالفات دولية تكشف الفجوة المحلية

الجدير بالذكر أن وزير الداخلية الأردني مازن الفراية كان قد زار فيينا قبل أيام، في لقاء جمعه بنظيره النمساوي غيرهارد كارنر. الأردن نفسه حاصر جماعة الإخوان، ومنع نشاطاتها، وصادر ممتلكاتها وأموالها، وبدأ بملاحقة عدد من قادتها قضائيًا، لا سيما بعد تقاربها مع حركة “حماس”. فهل تستفيد النمسا من هذه النماذج الإقليمية؟

المدارس… بوابة أولى للتأثير الفكري

في قلب المشهد، يبرز النظام التعليمي في النمسا كأحد الثغرات التي تُستغل من قبل جماعات الإسلام السياسي. كثير من أطفال المسلمين في البلاد يتلقون تعاليم دينية أو فكرية من مصادر غير مقننة، أو تثير أسئلة لا تجد إجابات واضحة، ما يدفعهم للبحث في الإنترنت، خاصة عبر تطبيق “تيك توك” الذي يعدّ منصة مثالية لنشر المحتوى المؤدلج والمتطرف. خلال فترة وجيزة، يمكن أن يتحوّل الشاب إلى قنبلة موقوتة، يتم تشغيلها في الوقت والمكان المناسب لمن يشرف على تأطيره فكريًا.

صوت المظلومية… سلاح الجماعات في التأثير على الشباب

تعتمد الجماعات الإسلاموية على خطاب المظلومية كأداة أساسية في استقطاب الشباب، خاصة أولئك الذين يشعرون بالغربة أو عدم الانتماء للمجتمع النمساوي. وتُستخدم هذه الاستراتيجية لتأجيج الصراع الداخلي، مما يؤدي إلى كراهية المجتمع وتحول بعض الأفراد إلى مشاريع متطرفة.

تساؤلات مفتوحة… بلا أجوبة

هل أضاعت النمسا مفتاح مكافحة التطرف؟
هل أُلقي به في بئر سحيق لا يعلم أحد عمقه؟
أم أن هناك تغاضٍ أو تخادم بين بعض الدوائر السياسية والأمنية والجمعيات الإسلاموية؟
لماذا يُشرعن التطرف في النمسا باسم “القانون” و”الحرية الدينية” و”حقوق الجمعيات”؟

تساؤلات مشروعة، تُطرح في كل مرة يظهر فيها وجه آخر من أوجه الإسلام السياسي في بلد، يبدو أنه لم يحسم موقفه بعد من التنظيمات التي تزرع بذور الانقسام تحت غطاء الحقوق، وتتغذى على التراخي الرسمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى