لماذا تعتبر وزيرة خارجية النمسا السابقة بوتين الجنتلمان الأكثر ذكاءً؟
INFOGRAT – فيينا:
كل شيء بدا سرياليا نوعاً ما، أجلس في قصر يعود إلى القرن التاسع عشر في سانت بطرسبرغ فيما استلقى ونستون تشرشل على الأرض بجوار الكرسي الذي اجلس عليه وغط في نوم عميق وعلا شخيره.
bbc |
“ربما من الأفضل أن توقظه من وقت لآخر”، هذه نصيحة وزيرة خارجية النمسا السابقة كارين كنايسل التي تجلس أمامي. ونستون تشرشل هو كلبها وهو من فصيلة البوكسر. وقد انتقلت، قبل بضعة أشهر، إلى روسيا، مع قطة ومهورها وكلبها.
وكاد شخير ونستون تشرشل أن يتسبب بأزمة دبلوماسية بين بلادها وألمانيا عندما اتصلت بنظيرها الألماني: “لقد واجهنا ذات مرة مشكلة دبلوماسية صغيرة بسبب شخيره، فلقد أجريت محادثة هاتفية مع زميلي الألماني. وكان وزير الخارجية الألماني السابق هايكو ماس يتحدث عبر مكبر الصوت وكان شخير ونستون تشرشل مسموعاً. فسارعنا إلى إيقاظه حتى لا نثير غضب برلين، وإلا، فربما اعتقدوا أن فيينا تغفو عندما تتصل برلين”.
عملت كارين كنايسل في مختلف الوظائف، فقد كانت محاضرة، وصحفية مستقلة، ومحللة للطاقة. لكنها أيضًا شخصية مثيرة للجدل وهو ما تجلى بشكل صارخ عام 2018 عندما حضر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حفل زفافها.
عملت كنايسل خلال معظم فترة التسعينيات من القرن الماضي في وزارة الخارجية النمساوية. في عام 2017، رشحها حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا (لم تكن عضوة فيه) لمنصب وزيرة الخارجية في حكومة ائتلافية جديدة. وكان الحزب ينسج علاقات وثيقة مع الكرملين، ووقع اتفاقية تعاون مع حزب روسيا الموحدة الحاكم في روسيا.
وفي عام 2019 انهارت الحكومة وتركت كنايسل منصبها. وتدعي أن “الضغوط السياسية” أخفقت محاولاتها استئناف حياتها المهنية في الأوساط الأكاديمية والأعمال التجارية لأنه كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها مقربة جدًا من روسيا.
كان هناك الكثير مما يمكن أن يشير إليه خصومها. ففي عام 2020، بدأت كارين كنايسل تنشر مقالات رأي في شبكة “روسيا اليوم”، وسيلة الإعلام الروسية التي تسيطر عليه الدولة، كما أصبحت أستاذة زائرة في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية. وفي عام 2021، عينتها شركة النفط الروسية العملاقة روسنفت في مجلس إدارتها (استقالت من هذا المنصب في مايو/آيار من عام 2022).
بعد أن اشتكت من “مطاردة الساحرات” وفشلت في العثور على عمل في النمسا، انتقلت كارين كنايسل إلى فرنسا، ثم إلى لبنان. وقبل بضعة أشهر، انتقلت مرة أخرى وهذه المرة إلى روسيا لرئاسة مركز تحليلي في جامعة سانت بطرسبرغ. و مقر هذا المركز هو في القصر الرائع الذي أجلس فيه الان. ويقول الموقع الإلكتروني للمركز أن مهمته هي “البحث عن حلول لتحديات التنمية العالمية ومهام السياسة الروسية”.
ولا تدير كنايسل المركز فقط بل هي التي اختارت اسمه.
قالت لي كنايسل: “لقد أطلقت اسم جي أو آر كي آي، وهو اختصار للمرصد الجيوسياسي للقضايا الرئيسية في روسيا”.
وسألتها: “تدركين أنه من المثير للجدل إلى حد كبير أن ينتقل وزير خارجية نمساوي سابق إلى روسيا في الوقت الذي شنت فيه هذه الدولة غزوًا واسع النطاق وغير مبرر ضد أوكرانيا؟ أليس هناك خطر أنه من خلال وجودك هنا تضفين الشرعية على الغزو والحرب والقمع الداخلي الذي يجري هنا؟”.
ردت كنايسل قائلة: “حسنًا، حتى الآن لم أشاهد أي نوع من القمع في محيطي المباشر، ويمكنني العمل هنا بنوع من الحرية الأكاديمية التي بدأت أفتقدها عندما كنت لا أزال أقوم بالتدريس في جامعات مختلفة في الاتحاد الأوروبي”.
وذكرت لها أنه قبل بضعة أيام فقط في هذه المدينة بالذات، تم إرسال امرأة شابة هي ساشا سكوشيلينكو إلى السجن لمدة 7 سنوات لأنها استبدلت بطاقات الأسعار في أحد المتاجر الكبرى بشعارات مناهضة للحرب مما يمثل أحد الأمثلة الأخيرة على موجة القمع التي تجتاح روسيا.
فردت قائلة: “إذن، ما الذي يجب علي فعله إزاء ذلك ؟ لقد شرحت مطولاً للتو الوضع الذي مررت به. دعنا ننظر إلى المسألة برمتها من زاوية أخرى ونطرح السؤال التالي: لماذا مُنعت كارين كنايسل من العمل؟ ما هي جريمتها؟ أنا ممتنة حقًا لأنه أتيحت لي فرصة عمل في روسيا”.
ارتفع صوت شخير ونستون تشرشل وصار عاليا جدًا لدرجة أن الميكروفون كان يلتقطه. لا أستطيع أن أترك هذا الكلب مستلقيا. ولأول مرة في مسيرتي المهنية، أُجبر على مقاطعة المقابلة لإيقاظ كلب صيد.
في عام 2018، تصدرت كارين كنايسل عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم.
ففي مارس/آذار من ذلك العام، تم استخدام سم الأعصاب نوفيتشوك في شوارع بريطانيا حيث تم استهداف الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا بهذا السم وقد نجيا من الهجوم الذي وقع في مدينة سالزبوري. لكن البريطانية دون ستورغيس، ماتت بعد لمسها عبوة ملوثة بهذا السم.
وافق الاتحاد الأوروبي على تقييم الحكومة البريطانية بأنه “من المحتمل جدًا أن يكون الاتحاد الروسي هو المسؤول عن العملية”. وطُرد العشرات من الدبلوماسيين الروس من أوروبا فيما نفت موسكو أي صلة لها بالحادث.
وبعد 3 أشهر فقط، دعت كارين كنايسل الرئيس بوتين ليكون ضيفًا في حفل زفافها في أغسطس/آب من عام 2018، ووصل زعيم الكرملين ومعه باقة من الزهور فقبلها وقدم الكثير من الهدايا لها ولعريسها.
وكان من بين الهدايا سماور شاي (إناء يستخدم لإعداد الشاي في روسيا)، ولوحة وقرط. ورقص الرئيس الروسي والعروس رقصة فالس. في نهاية الرقصة، انحنت كنايسل للزعيم الروسي انحناءة كبيرة.
سُئلت كارين كنايسل، في مقابلة مع برنامج هارد توك على قناة بي بي سي في وقت سابق من هذا العام بينما كانت لا تزال في لبنان عما إذا كانت سترقص مع الرئيس بوتين اليوم في حفل زفاف، بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية لائحة اتهام ضد زعيم الكرملين باعتباره مجرم حرب”.
أجابت: “نعم، و ما العلاقة بين الأمرين؟ لن أتدخل في لائحة الاتهام بارتكاب جرائم حرب لأنه لدينا الكثير من مجرمي الحرب داخل الدوائر السياسية الرفيعة”.
وعندما أثرت معها موضوع زفافها عام 2018 والذي أثار ضجة كبيرة لكن ليس بسبب أجراس العرس، ردت بغضب: “هذا الموضوع بات مملاً للغاية، لقد حدث الأمر برمته منذ ما يقرب من 6 سنوات. في ذلك الوقت كنت وزيرة للخارجية ورقصت مع الرئيس بوتين، لكنني فعلت أشياء أخرى في حياتي قبل تلك الرقصة وبعدها. بصراحة، بات الأمر مملا للغاية”.
تساءلت: “هل تقصدين الحديث عن حفل الزفاف؟”
أجابت قائلة: “نعم. هناك مواضيع أكثر إثارة للاهتمام يمكننا مناقشتها”.
فقلت: “سنفعل ذلك. ولكن ألست نادمة؟”.
فقالت: “هذا الموضوع ممل، والكلب نام وبدأ يشخر بسبب شعوره بالملل”.
كانت محقة. فقد استلقى ونستون تشرشل مرة أخرى. وأشك أن يكون سؤالي حول حفل الزفاف الذي حضره بوتين هو الذي أعاده إلى النوم. رغم أنني أفترض أنه لن نعرف أبدًا سبب عودته للنوم، لكنني أعرف رأي كارين كنايسل في الضغوط الغربية على روسيا، فهي تعتقد أن الزعماء الأوروبيين بدأوا يدركون قلة جدوى هذه العقوبات.
وقالت لي: “ما أعتقد أنه مثير للانتباه هو اعتراف الكثيرين بأن العقوبات غير فعالة، ويتعين على الكثيرين أن يعترفوا بأن العقوبات ضد روسيا لم تسفر عن النتائج التي كانوا يتوقعونها”.
ومضت تقول: “عندما تنظر إلى الطريقة التي كان يتحدث بها جميع مسؤولي الاتحاد الأوروبي طوال الأشهر الثمانية عشر الماضية ومطالبتهم بتغيير النظام في روسيا، كيف يمكنك كروسيا التفاوض مع الذين يطالبون بانهيارك وتدميرك؟ “.
لفت انتباهي الصور الموجودة على الخزانة خلفها. ومن بينها صورة لكارين كنايسل مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وأخرى مع الرئيس بوتين.
سألتها: “على ضوء اجتماعاتك مع فلاديمير بوتين، كيف ترينه؟”.
تجيب كارين كنايسل: “إنه الرجل المحترم الأكثر ذكاءً، مع التركيز على صفة الرجل المحترم، وقد التقيت بالقليلين منهم، وأعني نفس المفهوم الذي عرضته جين أوستن في روايتها (كبرياء وتحامل) عن الرجل المحترم. إنه يرقى إلى هذا المستوى”.
قلت: “إننا نشهد موجة قمع في الداخل، كما رأينا روسيا تغزو أوكرانيا، من الصعب تصنيف هذه الممارسات على أنها أعمال محترمة”.
تجيب: “حسناً، توني بلير، وديفيد كاميرون، تورطا مع حكومتيهما في عمليات عسكرية”.
تقوم كارين كنايسل ببناء حياة جديدة لنفسها في روسيا. لكن هل يمكنها أن تتخيل العودة إلى النمسا؟
تقول لي: “في النمسا هناك بعض الأصوات التي تطالب بسحب الجنسية مني لأنني أعمل الآن في إحدى الجامعات في روسيا، وأنا متهمة بالفساد، والخيانة العظمى، والعمل لمدة ثلاثين عامًا في خدمة الكي جي بي، وفقًا لويكيبيديا. كل هذا التشويه والتشهير يدمر الحياة. ولا أريد العودة إلى النمسا حتى يتم اتخاذ الكثير من الإجراءات القانونية لتنظيف سمعتي”.
وتساءلت: “أنت تقولين إن هناك أشخاصًا في النمسا يتهمونك بالخيانة العظمى وبأنك جاسوسة روسية، ولكن هل يمكنك أن تتفهم ذلك إلى حد ما..؟”.
قاطعتني كنايسل قائلة: ” بتاتاً، ولا حتى قيد شعرة. أنا لا أفهم ذلك، إنها أوهام قذرة”.
bbc