سجن صيدنايا بين الجدران: حكاية آلاف الأرواح

في هذا العالم، هناك أشخاص يستيقظون كل صباح ليشربوا قهوتهم أمام نافذة مفتوحة، يستنشقون الهواء بحرية، يتذمرون من زحام الطريق، يتحدثون عن مشاريعهم القادمة، يسافرون، يحتفلون بأعياد ميلاد أطفالهم، ويأكلون ما يشتهون. وفي مكان آخر، في عالم موازٍ خلف جدران رمادية، هناك أشخاص لا يعرفون الليل من النهار إلا من خلال قطعة خبز تُرمى أمامهم مرة واحدة في اليوم.

وسيم محمد مطاوع
سوري مقيم في فيينا

الوقت: ساعة منسية وزمن ضائع

في الخارج، يضبط الناس ساعاتهم على مواعيد العمل والمدارس والرحلات، أما داخل السجن، فالزمن يقاس بعدد الوجبات القليلة التي تصل إلى الزنزانة. وجبة واحدة في الصباح تعني أن هذا نهار، ووجبة أخرى – إن جاءت – تعني أن هذا ليل. لا أحد يعرف أي يوم نحن، ولا أحد يعرف أي شهر، فالزمن هناك يتوقف عند آخر لحظة دخلوا فيها السجن.

في الخارج، هناك من يفكر في العطلة القادمة، في فيلم سهرة الليلة، أو في وجبة غداء دسمة، أما السجين فهو يفكر فقط: هل سأعيش حتى الغد؟ وهل سأحصل على وجبتي اليوم؟

الصوت: موسيقى الحياة أم صراخ الألم؟

في الخارج، تسمع ضحكات الأطفال، نداءات الباعة في الأسواق، موسيقى تصدح من نافذة مفتوحة. أما في صيدنايا، فالصوت الوحيد الذي يعرفه السجين هو صوت خطوات السجان الثقيلة تقترب، صوت المفاتيح التي تدور في الأقفال، وصوت الصراخ القادم من زنزانة مجاورة.

في الخارج، عندما يُصاب شخص ما بجرح صغير، يسارع الجميع لإسعافه، أما في الداخل، فالدماء تُترك لتجف، والجروح تصبح جزءًا من الجلد، علامةً تذكّره يوميًا بأنه إنسان مكسور، وأن الألم رفيق لا يغادره.

عندما يُضرَب السجناء بشدة حتى يفقدوا الوعي، تكون تلك اللحظات هي الوحيدة التي يتوقف فيها الألم، حيث تأخذهم الأحلام إلى حضن أطفالهم، حيث يحتضنونهم ويقبلونهم، يرون زوجاتهم وعائلاتهم. كانوا يتمنون البقاء نائمين فقط ليعيشوا تلك اللحظات الوهمية، البعيدة عن الجدران الرمادية وصراخ السجان.

العلاقة مع الجدران: حدود الحياة

في الخارج، الجدران تُزيَّن بالصور والذكريات، تحمل شهادات التفوق ورسوم الأطفال، أما في السجن، فالجدران هي الرفيق الوحيد، الصديق الذي لا يتغير. السجين يحاور الجدران، يتأمل الشقوق الصغيرة، يحاول قراءة الزمن من خلالها.

في الخارج، نوافذ البيوت مفتوحة، والستائر تتحرك مع النسيم، أما في الزنزانة، فهناك نافذة صغيرة يتسلل منها ضوء شاحب أحيانًا، لكنها ليست نافذة للأمل، بل نافذة تذكّرك بأن هناك سماء بالخارج، لا يمكنك لمسها.

الكرامة: قيمة مفقودة

في الخارج، عندما يُهان شخص أمام الآخرين، يقف الجميع لنصرته، أما في سجن صيدنايا، فالإهانة هي الروتين اليومي، جزء من نظام السجن. السجين يُضرَب حتى دون سبب، يُجبَر على الزحف كالحيوان، يُمنَع من رفع رأسه، وكأن رفع الرأس جريمة يعاقَب عليها.

في الخارج، إذا سقط شخص، تجد أيادي كثيرة تمتد لرفعه، أما في الداخل، فإذا سقطت، تُركَل لتسقط أكثر، ويقال لك: “ابقَ هناك”.

الخروج: أحياء بأرواح مقتولة

عندما يُفرَج عن أحد الناجين من سجن صيدنايا، لا يخرج إنسانًا كما دخل. يقف عند باب السجن هزيلًا، عيناه زائغتان، وذاكرته مثقوبة. يقف أمام عائلته، لكنه لا يعرفهم. أم تبكي، أب يصرخ باسمه، وهو ينظر إليهم كغرباء.

في الخارج، إذا غاب شخص لعام أو اثنين، يعود ليجد الجميع كما تركهم، أما المعتقل الخارج من سجن صيدنايا، فيعود ليجد كل شيء قد تغيّر، بل يجد أن داخله هو نفسه لم يعد كما كان.

بعضهم فقد ذاكرته تمامًا، لا يتذكر طفولته، لا يتذكر أسماء أهله، ولا حتى وجهه. يقف أمام المرآة متسائلًا: “من أنا؟”

صناعة الموت: من ضحايا إلى مجرمين

لم يكن النظام عاجزًا عن قتل المعتقلين فورًا، لكنه اختار إبقاءهم أحياء ليُمارَس عليهم التعذيب يوميًا، ليتم تفكيك إنسانيتهم وتحويلهم إلى مجرد أجساد تتألم. وبعد أن يتم تحطيمهم، يُقتَلون، وحينها يصبح الجلادون قتلة متعطشين للدماء.

هذه السياسة لم تكن عبثية، بل كانت أداة بيد نظام لا يكتفي بتحطيم وقتل المعتقلين، بل يصنع مجرمين جددًا (الشبيحة) ليطلقهم بعد ذلك كأدوات للفوضى والخراب في الشوارع.

حياة أم مجرد بقاء؟

في الخارج، عندما يتحدث الناس عن الموت، يتخيلونه لحظة أخيرة، لكن في سجن صيدنايا، الموت ليس لحظة، إنه أسلوب حياة. الموت هناك ليس مجرد توقف القلب عن النبض، بل هو توقف العقل عن الأمل، وتوقف النفس عن الحلم.

السجين هناك لم يمت جسديًا، لكنه مات ألف مرة، وهو جالس في زاويته الباردة، منتظرًا ضربة جديدة أو إهانة أخرى.

بين عالمين

في الخارج، الحياة تستمر، هناك من يحتفل بزواجه، من ينشر صور رحلاته على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن يشكو من ملل يومه، وفي الداخل، هناك من لا يعرف إذا كان ما زال حيًا أو ميتًا.

سجن صيدنايا ليس مجرد مكان، إنه مقبرة للأحياء، كل جدار يحمل حكاية، وكل زاوية تحمل وجعًا، وكل سجين عاش هناك، حمل معه عند خروجه جزءًا من تلك الظلمة.

وراء كل رقم لمعتقل، هناك إنسان، وهناك قصة قد لا تُروى أبدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى