ثقافة الاعتذار.. طريق الشعوب إلى النهوض

منذ أن أطل علينا بشار الأسد، الرئيس الفارّ، بخطابه الشهير في مجلس الشعب السوري في 30 مارس 2011، كان الشعب السوري ينتظر منه خطوة واحدة، خطوة كانت ستغير مسار الأحداث وربما تخفف من وطأة الدماء التي أريقت لاحقًا. كان السوريون يتوقعون اعتذارًا شجاعًا منه على الممارسات الوحشية لأجهزته الأمنية التي لجأت إلى القتل العلني، مع وعد بمحاسبة كل من تسبب في إراقة الدماء، بدءًا من ابن خالته، عاطف نجيب، المسؤول الأول عن إشعال فتيل الغضب الشعبي.

عمر حيدر
صحفي سوري
مقيم في فيينا

لكن بشار الأسد، الذي ظن البعض أنه قد يكون مختلفًا عن والده، أثبت العكس تمامًا. فالآمال التي علّقها الشعب عليه بأن يكون قائدًا بعيدًا عن النهج القمعي الذي أسسه والده حافظ الأسد، سرعان ما تبددت. وبدلاً من الاعتذار أو تقديم حلول، جاء خطابه مشحونًا بالإنكار، واصفًا شعبه بالجراثيم والبكتيريا، وأعطى الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية لسحق المتظاهرين السلميين.

أول دماء الثورة

لم يمر وقت طويل على خطابه، حتى جاءت جريمة قتل الطفل حمزة الخطيب في مايو 2011 لتكشف للعالم الوجه الحقيقي لهذا النظام. كان حمزة، ابن الثانية عشرة، رمزًا للبراءة التي اغتالتها وحشية الأجهزة الأمنية. تعذيبه وقتله لم يكن مجرد جريمة، بل كان رسالة واضحة من النظام: لن نتراجع.

لقد أزهقت أرواح آلاف الأبرياء منذ ذلك الحين، بينما وقف العالم مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الأطفال.

بعد سقوط الأسد

في 8 ديسمبر 2024، وبعد سقوط بشار الأسد وفراره من سوريا، بدأت وجوه أخرى تظهر في الإعلام. ممثلون، صحفيون، كتّاب، وقادة سياسيون كانوا يومًا جزءًا من ماكينة النظام، بدأوا بتبرير مواقفهم السابقة، وبدلاً من الاعتذار، لجأوا إلى تقديم تبريرات واهية.

ومن أبرز هذه الشخصيات:

دريد لحام: الذي ظل طوال سنوات الثورة يقدم الدعم الإعلامي للنظام عبر تبرير جرائمه، ولم يقدم حتى الآن أي اعتذار عن مواقفه المؤيدة للقتل والقمع.

رغدة: الفنانة التي تحولت من مدافعة شرسة عن النظام إلى شخص يحاول الوقوف في منطقة رمادية دون الاعتراف بأخطائها.

• نجدت أنزور: الذي أنتج أعمالاً درامية تمجد النظام وتشيطن الثورة، ثم تراجع عن تأييده العلني دون أن يعتذر عن دوره في الترويج لسردية النظام.

• شريف شحادة: المحلل السياسي الذي دافع بشراسة عن النظام لسنوات، وبدأ بعد سقوط الأسد بالبحث عن مبررات لتغيير مواقفه دون الاعتراف بمسؤوليته في التحريض الإعلامي.

• باسم ياخور: الذي ظل طوال فترة الثورة يتجاهل معاناة الشعب السوري، وشارك في تلميع صورة النظام إعلاميًا، واليوم يظهر بمظهر من يحاول الهروب من مواقفه السابقة دون أن يواجه الشعب بكلمة اعتذار.

لماذا نعتذر؟

ثقافة الاعتذار ليست أمرًا غريبًا على المجتمعات الإنسانية. على العكس، هي جوهر العلاقات السليمة بين البشر، وهي قيمة راسخة في كل الأديان. ففي الإسلام، يذكرنا القرآن الكريم بأهمية التوبة والاعتذار، ليس فقط تجاه الله سبحانه وتعالى، بل تجاه البشر أيضًا. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ” (البقرة: 222).

أما رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، فقد كان نموذجًا رائعًا للتواضع والاعتذار. القصة الشهيرة لسواد بن غزية، الذي آذاه النبي صلى الله عليه وسلم عن غير قصد أثناء الاصطفاف في غزوة بدر، خير مثال. فحين طلب سواد حقه، كشف النبي عن بطنه وقال: “استقد” أي خذ حقك، في موقف يعبر عن أخلاق الأنبياء العظماء.

النبي موسى عليه السلام أيضًا قدم مثالًا للندم والاعتذار، حين قتل رجلاً من بني إسرائيل دون قصد، فرفع يديه قائلًا: “رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ” (القصص: 16). وكذلك النبي عيسى عليه السلام، الذي علّم أتباعه أن المصالحة مع الناس مقدمة للتقرب إلى الله: “فَاتْرُكْ قُرْبَانَكَ هُنَاكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ” (إنجيل متى 5:23-24).

الاعتذار… حق للشعب السوري

إذا كان الاعتذار فضيلة وأحد أهم أركان تصحيح الأخطاء، فلماذا يعجز مناصرو الأسد الفارّ عن الاعتراف بخطاياهم؟ لماذا يصرّون على الدفاع عن مواقفهم السابقة، بينما كان واجبهم الأخلاقي والإنساني أن يطلبوا الصفح من الشعب السوري الذي ذاق الويلات بسبب دعمهم؟

الشعب السوري، الذي خسر الكثير، لا ينتظر اعتذارًا من مجرمي الحرب أو من المحرضين على القتل، فهؤلاء مكانهم الوحيد هو قفص العدالة. لكنه يتطلع إلى تأسيس ثقافة جديدة في سوريا، ثقافة تحترم الإنسان وتضع الاعتذار كقيمة مركزية في الحياة العامة.

سوريا الجديدة… والرحلة إلى موسكو

اليوم، ونحن على أعتاب بناء سوريا جديدة، من المهم أن نتعلم من أخطاء الماضي. يجب أن يكون لدينا نظام سياسي قادر على الاعتراف بأخطائه والاعتذار عنها بشجاعة، بدلاً من إنكارها أو تبريرها.

أما من يصر على إنكار دوره في دعم النظام السابق، ويرفض الاعتذار للشعب السوري، فمصيره لن يكون مختلفًا عن مصير بشار الأسد، الذي انتهى به المطاف على متن طائرة إلى موسكو. فالتاريخ يعاقب كل من يتشبث بالكبرياء الكاذب على حساب الحق والعدالة.

وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستولد ثقافة الاعتذار في سوريا الجديدة؟ أم أن البعض سيظل حبيسًا لغروره حتى يجد نفسه مطرودًا، لا يحمل سوى حقائب الذكريات إلى المنفى؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى